تغيّرات الموازين الخارجية والداخلية أفقدت الاحتلال قدرة المبادرة إلى العدوان
يوماً بعد يوم، تتصاعد لهجة التصعيد الإسرائيلية ضد لبنان، متخذة، في الآونة الأخيرة عنوانين حسّاسين، هما حقول الغاز والنفط قبالة السواحل الجنوبية للبنان، أو ما بات يسمّى «البلوك رقم 9»؛ والجدار الاسمنتي الذي شرعت قوات العدو بتشييده عند الخط الأزرق.
بطبيعة الحال، لا يمكن فصل التصعيد، الذي انبرى له، وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، عن الأزمة التي تعيشها إسرائيل على خلفية التطوّرات الإقليمية –وإلى حد كبير الدولية– التي جعلت مشاريعها التقسيمية المشتركة مع الولايات المتحدة لدول المنطقة العربية، تصاب بانتكاسة حادة، بعد تجاوز سوريا والعراق ودول عربية أخرى، أخطر التحدّيات الوجودية منذ تأسيسها.
ولا يمكن أيضاً فصل هذا التصعيد عن العزلة الدولية التي باتت تتهدد إسرائيل، منذ انتقال السلطة السياسية فيها، قبل سنوات، إلى أقصى اليمين، حين خلصت المعادلة الداخلية إلى جعل الائتلاف الليكودي–الاستيطاني، الخيار الوحيد للحكم، مع ما يعنيه ذلك، انهياراً لكل التفاهمات الدولية التي تحصّن بها الكيان الصهيوني منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم.
جعجعة إسرائيلية
إذا كان بنيامين نتنياهو قد استبشر خيراً بقدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بعد الفتور الذي أصاب العلاقات الأميركية–الإسرائيلية في الولاية الثانية من عهد باراك أوباما، فإنّه، بطبيعة الحال، بات يستشعر انخفاضاً في سقف التوقعات، لاسيما بعد الموقف الدولي الحازم في رفض قرار تغيير الواقع السياسي لمدينة القدس، الذي وضع إسرائيل والولايات المتحدة في عزلة دولية غير مسبوقة، ناهيك عن تراجع السياسات الأميركية تجاه سوريا –وهي كانت من بين الرهانات الكبرى لإسرائيل– خصوصاً بعد العملية العسكرية الروسية في أواخر العام 2015، وما انتجته من متغيرات سياسية وعسكرية.
على هذا الأساس، تصبح التهديدات الإسرائيلية مجرّد جعجعة لا تنتج حرباً، خصوصاً أن موازين القوى الراهنة، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية، تجعل من أي تحرّك تصعيدي –غير كلامي– مجرّد محاولة من صقور حكومة بنيامين نتنياهو، ولاسيما الشعبويين منهم، أمثال أفيغدور ليبرمان، لذرِ الرماد في عيون المعارضين الداخليين، تحسباً لأية متغيرات داخلية، قد تفرض إجراء انتخابات مبكرة.
كل ذلك لا يغيّره التبدّل الكلامي في لغة التهديدات الإسرائيلية التي كانت حتى الأمس القريب مقتصرة على شعار «جاهزون للحرب ولكننا غير معنيين بالتصعيد»، باتجاه شعار آخر هو أننا «جاهزون لحرب إرادية»، فالتقديرات التي تحفل بها وسائل الإعلام الإسرائيلية، نقلاً عن مصادر أمنية وعسكرية، تعكس مأزقاً في فهم أو توقع سيناريوهات الحرب المقبلة المفترضة.
هذا الأمر تبدّى بين سطور تصريحات ليبرمان الأخيرة التي عكست قلقاً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية في حال اندلاع الحرب، والقراءات المستفيضة للمحللين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بشأن حديث الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله عن مخازن ومعامل الأمونيا ومفاعل «ديمونا»… والهاجس الذي يعيشه المستوطنون في شمال فلسطين إزاء عمليات الكوماندوس المحتملة للمقاومة اللبنانية في شمال الجليل… أو حتى القلق الذي ينتاب القيادة العسكرية الإسرائيلية من دخول عناصر بحرية وجوية غير مسبوقة في حرب كهذه.
قلق في إسرائيل
بطبيعة الحال، فإنّ القلق من تنامي قوة الردع التي يمتلكها «حزب الله»، عبر تعاظم ترسانته الصاروخية وخبرته القتالية، تجعل الكثير من المحللين الإسرائيليين والغربيين يطرحون أسئلة من قبيل «إذا كانت إسرائيل قد عجزت عن إلحاق الهزيمة بحزب الله قبل 12 عاماً، حين كان يملك بضعة آلاف صواريخ متوسطة المدى، فكيف يمكنها دخول الحرب، في ظل امتلاك الحزب نحو 120–150 ألف صاروخ؟»… و«إذا كانت جماعة صغيرة كالحوثيين قادرة على ضرب الرياض وأبو ظبي، فكيف يمكن التحصن من صواريخ منصوبة على بعد بضعة عشرات الكيلومترات؟»… «وإذا كان نطاق الحرب في العام 2006، مقتصراً على نقاط محددة في لبنان، فماذا ستكون الحال مع اتساع رقعة انتشار حزب الله في الداخل السوري؟».
بهذا المعنى، تقتصر أهداف التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان تحذيرية–كلامية أكثر منها تهديدية–عملانية.
وبهذا المعنى أيضاً، يصبح الجدار الاسمنتي، مجرّد شكل آخر من أشكال الشعور الداهم بالخطر الوجودي لدى الإسرائيليين، والذي جعل من كيانهم محاصراً بالجدران، ابتداءً بغزة وسيناء جنوباً، مروراً بالاردن شرقاً، ووصولاً إلى لبنان شمالاً.
ولا يغيّر في هذا التوصيف المحاولات الإسرائيلية لاستغلال الجدار الاسمنتي عند الخط الأزرق لتغيير الحقائق، وخلق أمر واقع جديد على الأرض، وهو أمر يمكن إسقاطه بمعركة دبلوماسية، بات لبنان يمتلك تجربة هائلة في خوضها.
وبهذا المعنى كذلك، يمكن فهم الإدعاء الإسرائيلي بامتلاك الرقعة النفطية والغازية «رقم 9»، بأنها مجرّد محاولة لتركيز الانظار الدولية على المخاطر المحتملة، على النحو الذي يدفع شخصية رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الأميركية، مثل ديفيد ساترفيلد، إلى تكثيف الاتصالات مع الجانبين اللبناني والإسرائيلي، والخروج بخلاصة مفادها أن التوتر يمكن احتواؤه بالطرق الدبلوماسية، حسبما نُقل عنه بعد محادثاته في بيروت وتل أبيب.
موازين خارجية وداخلية
يضاف إلى ما سبق، أن موازين القوى السياسية تشكل بدورها قوة ردع لأية مغامرة إسرائيلية محتملة، وهي تتوزع بين عوامل خارجية وأخرى داخلية، خاصة بالمجتمع الإسرائيلي نفسه.
وعلى رأس العوامل الخارجية يأتي الحضور الروسي في المشرق العربي، وخصوصاً بعد العملية العسكرية الروسية في سوريا والترتيبات السياسية المرافقة لها، على خط أستانا–جنيف–سوتشي، والتي لا يمكن لموسكو أن تقبل بتقويضها من خلال تصعيد إسرائيلي غير محسوب النتائج تجاه لبنان.
هذا الأمر، جعل فلاديمير بوتين على سبيل المثال، يصب دلواً من الماء المثلج على رأس نتنياهو، حين هرع إليه طالباً التدخل لتقويض حضور إيران و«حزب الله» في الميدان السوري، ويوجّه إليه رسالة جوية عابرة لأجواء فلسطين–لبنان–سوريا، حين تصدّت الدفاعات الجوية السورية لطائرات إسرائيل تزامناً مع العرض العسكري الذي نظمه أفيغدور ليرمان لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حين حلّ ضيفاً على تل أبيب.
يضاف إلى كل ما سبق أن دخول لبنان نادي الدول النفطية، من خلال كونسورتيوم شركات دولية ثلاث –روسية وإيطالية وفرنسية– يجعل الحديث عن «استقرار لبنان» يتجاوز الشعارات الدبلوماسية باتجاه أمر واقع مفروض على الجميع، وأوّلهم الإسرائيليون.
هذا الأمر يفسر إلى حد كبير، على سبيل المثال، الموقف الروسي البارد جداً تجاه التداعيات المحتملة للأزمة التي افتعلتها السعودية في لبنان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، من بوابة احتجاز سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة والتحرّك الفرنسي السريع في احتواء ما جرى، ولاحقاً تحرير رئيس الحكومة اللبنانية من الاحتجاز.
علاوة على كل ما سبق، فإنّ الأجواء الداخلية في إسرائيل لا تجعل نتنياهو قادراً على اتخاذ قرار بالحرب في الأساس –وليس خوضها– فالأحزاب الدينية الشريكة في الحكم باتت تشكو بدورها من أن تؤدي لغة التصعيد السائدة إلى عرقلة مشاريعها لاستقدام مزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة، فيما تنبري الأحزاب الاستيطانية إلى انتقاد فكرة الحرب بحدّ ذاتها، خصوصاً أن من شأنها عرقلة مشاريع أخرى تتعلق بالقدس والمستوطنات، و«صفقة القرن» التي يتم الترويج لها لتوطين الفلسطينيين في سيناء أو غيرها.
كل تلك المتغيرات تجعل السياسة الإسرائيلية عالقة بين سقفين، على نحو يمكن اختزاله بعبارة: تهديد… لكن لا حرب.
Leave a Reply