رغم زلزال “الربيع العربي” الممتد من شمال افريقيا الى البحر الأحمر، ومن الخليج العربي الى شواطئ المتوسط، بكل وقائعه المريرة والدموية وآلاف الضحايا والنازحين والمشردين في بلادهم وعلى الحدود مع الجيران وعندهم، لايزال بعض الساسة اللبنانيين يمارسون ترف المماحكة اليومية حول من “يلتزم” بالدستور ومن “يخرقه” ومن يعطل تشكيل حكومة يفترض أن فريقا سياسيا كان منذ أكثر من ثلاثة أشهر قادرا على تشكيلها، ومن يسهل هذه العملية التي أصبحت شأنا اقليميا ودوليا بفضل كل القوى السياسية المتحكمة بمصير بلد الأرز، لكنها المنكرة لمسؤولياتها عن تهريب آخر هامش من القرار الداخلي اللبناني الى خارج الحدود.
لقد مضى زمن كانت للعبة السياسية الداخلية نكهتها الخاصة، رغم حقيقة أن التدخلات الخارجية في الشأن اللبناني هي من سمات السياسة في هذا البلد الصغير الواقع على خط الزلازل الاقليمية والدولية، منذ نشأته بصورته الحالية قبل نحو قرن من الزمن.
يفترق اللبنانيون عن جيرانهم من الشعوب العربية بأنهم يعانون من أكثر من دكتاتورية واحدة، مثلما هو حال اشقائهم العرب. فلبنان يخضع لحكم مجموعة دكتاتوريات طائفية تحكم الخناق على الأغبية الساحقة منهم ويتطلب التخلص منها مجموعة من الانتفاضات مقارنة بالانتفاضة الواحدة التي شهدتها وتشهدها دول عربية عدة.
لكن محنة اللبنانيين الحقيقية هي في عدم امتلاكهم لقرار الخروج الى الشارع، اذا استثنينا بعض الجماعات اليسارية التي تكافح لاقناع سائر اللبنانيين بأنها لاتزال حية ترزق، رغم أن بعض “قياداتها” ومنها الماركسي والقومي تمارس هذه الآونة “تقية ثورية” فتنأى بنفسها عن جماهير الثورات العربية الكادحة ولا تجد حرجا من التنبيه من “مؤامرة صهيونية أميركية” تسعى الى احداث “فتنة” في بعض البلدان العربية التي خرج مواطنوها مطالبين بالحرية فتم نعتهم بشتى صنوف النعوت من “العمالة للخارج” الى “العصابات الاجرامية” و”المجموعات السلفية الارهابية” وغيرها من الأوصاف التي وحدت الخطاب الاعلامي لكل الأنظمة المنتفضة عليها شعوبها، من طرابلس الى صنعاء فدمشق، وقبلعا تونس والقاهرة.
لقد امتلك اللبنانيون رغم حروبهم المتقطعة وعدم استقرارهم شبه الدائم هوامش من الحرية، لم يدفعوا ثمنها دماء، مثلما يدفع اخوانهم العرب هذه الايام للحصول على حقوقهم بالحرية والكرامة وتقرير مصائرهم بعيدا عن ارادة حفنة من الحكام تسلقوا الى السلطة بشعارات خلابة تحولت مع الزمن الى مرادف للقمع والتسلط وارهاب الناس وزجهم في السجون وممارسة القتل والتعذيب والإخفاء القسري. ولم يسل الدم اللبناني في الحرب الأهلية الا بسبب سوء تقديرهم لهامش الحرية الذي كانوا يتمتعون به ويحسدهم عليه أشقاؤهم القريبون والبعيدون. أما الدماء التي سالت بفعل الصراع مع عدوهم وعدو العرب “اسرائيل” في العقود الثلاثة الماضية، فهو الضريبة التي ارتضاها وانفرد بها اللبنانيون عن رضى وقناعة، اذ كانوا يظنون أن هذا الصراع لابد أن يأتي يوم وينخرط فيه كل اشقائهم العرب الذين أبقت انظمتهم جذوة الصراع مشتعلة على موجات الراديو وشاشات التلفزة وصفحات الجرائد. لكن ما تبين بعد عقود من التمويه أن تلك الأنظمة كانت بواد وفلسطين وقضيتها بواد آخر. وأن اهتمامها كان منصبا على توفير وسائل التأبيد في السلطة، فتحولت الساحة اللبنانية المفتوحة، الى مختبر ميداني لاختبار القدرة على البقاء والاستمرار والى صندوقة بريد لخدمة هذا الاختبار الذي طال أكثر من ثلاثة عقود، قبل أن يبدأ البنانيون بـ”الاكتشاف” أنهم مجرد سلع في تجارة الأنظمة وصفقاتها مع رعاة الدولة المحتلة لأرضهم وأحيانا معها.
والمؤلم في واقع اللبنانيين الراهن أنه فيما يتفتح “الربيع العربي” من حولهم وتنهض الشعوب لاستعادة انسانيتها المسلوبة، يعجزون هم عن تشكيل حكومة لادارة شؤون حياتهم اليومية ويدارون عجزهم بحروب اعلامية آخذة في التحول الى نزعات قبلية مكشوفة على ما تبقى من مغانم “الدولة” ومواردها بطرق تبعث على الاشمئزاز.
وبينما تحاول بعض الشعوب العربية اعادة بناء دولها ومجتمعاتها على اسس من الحرية والكرامة واحترام انسانيتها، يوغل اللبنانيون في استرهان عقولهم و”افئدتهم” الى أمراء طوائف أفرزتهم الحرب الأهلية وأسهموا في فظاعاتها أيما اسهام، وكان المنطق المدني يفترض ايداعهم في مراكز اعادة تأهيل، لا “انتخابهم” أو تعيينهم (بمعنى أدق) لتمثيل الناس وقيادة الدولة والمجتمع.
الساسة البنانيون “البارعون” في استكشاف كل فرص الارتهان والتبعية يمارسون هذه الآونة “ممانعة” ضد التخفف من أعباء التدخلات في شؤونهم ويهيمون على وجوههم بحثا عن “راع” لخلافاتهم وسط انشغال الانظمة في انقاذ رؤوسها من الاطاحة.
Leave a Reply