لم يكن توقيت القرار الإسرائيلي بالانسحاب من الجزء الشمالي لمدينة الغجر، سوى مناورة، خرج بها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لتخفيف الضغط الدولي عليه، بموضوع تجميد بناء المستوطنات اليهودية، التي تتعثّر المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بسببها، وهو يأتي دائما كلما اقترب موعد اصدار الامين العام للامم المتحدة بان كيمون تقريره حول تنفيذ القرار 1701 .
فخروج قوات الاحتلال من الشطر اللبناني المحتل منذ العام 1978، كان يجب أن يتمّ فور صدور القرار 1701، عن مجلس الأمن الدولي في 14 آب 2006، الذي أوقف الأعمال العسكرية، ولم يثبِّت وقف إطلاق النار، وقد طلب أن تنسحب إسرائيل أيضاً من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، إضافة الى الأراضي التي قضمتها خارج الخط الأزرق، والتي يوجد خلاف حولها، مع لبنان.
فإسرائيل كانت تضرب بعرض الحائط بالقرارات الدولية، وهي لم تلتزم بها وتنفّذها منذ اغتصابها لفلسطين، وفي ما يتعلّق بلبنان، فهي امتنعت منذ العام 1978، على تنفيذ القرار 425، الذي طالبها بالانسحاب الفوري ودون قيد أو شرط، من الأراضي اللبنانية التي اجتاحتها في آذار من العام 1978، وكل ما فعلته، أنها أقامت احتلالاً مقنعاً عبر ميليشيا أقامها العميل سعد حداد، فيما سمي بـ”الشريط الحدودي المحتل”، أو “الجدار الطيب” مع الدولة العبرية، التي فتحت حدودها مع لبنان، باتجاه فلسطين المحتلة، وأقفلت في الداخل حدود “دويلة لبنان الحر”، حسب زعمها ورأّست الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد عليها، والذي كان يتلقى دعماً من “الجبهة اللبنانية” المدعومة من كميل شمعون وبيار الجميّل.
فالتجربة مع الانسحاب الإسرائيلي في العام 1978، تتكرّر مع الجزء اللبناني من بلدة الغجر، التي احتلّت إسرائيل شطرها الجنوبي في العام 1967، وسلختها من سوريا، ومنحت سكانها الجنسية الإسرائيلية، وهم مواطنون سوريون، وعندما احتلت إسرائيل منطقة جنوب الليطاني، لمنع صواريخ المقاومة الفلسطينية “الكاتيوشا” من السقوط على المستوطنات اليهودية في الجليل الفلسطيني المحتل، تمدّد السكان جغرافياً باتجاه الأرض اللبنانية وأصبح عددهم حوالي 1700 نسمة، وبنوا عليها منازل وأقاموا مشاريع زراعية وصناعية وتجارية فيها، ولدى انسحاب قوات الاحتلال الجنوب في العام 2000، وترسيم الحدود، كانت الغجر في شطرها الشمالي، داخل الأراضي اللبنانية، ولم يدخلها الجيش اللبناني لبسط سيادة الدولة، وتركها معلقة، بسبب رفض الأهالي الالتحاق بلبنان، وهم سوريون يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويرتبطون خدماتياً واجتماعياً وعائلياً مع الغجر السورية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن تقسيم البلدة، سيعني انفصال الأهالي عن بعضهم، وهذا ما يرفضونه، ويطالبون بأن تبقى بلدتهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، حتى تحلّ قضية الجولان المحتل والأراضي السورية المحتلة، لأنهم مواطنين سوريين.
وما تطرحه إسرائيل، من انسحاب من الغجر، لا يعيد للجزء الشمالي منها، السيادة اللبنانية عليها، بل كل ما تقدّمه هو انسحاب لقواتها، على أن تتقدّم القوات الدولية باتجاه البلدة وتنتشر فيها، في حين أن القرار 1701، نصّ على انتشار الجيش اللبناني في الأماكن التي تنسحب منها إسرائيل، على أن تؤازره القوات الدولية، وهو ما ترك الوضع معقداً، لاسيما وأنه لم يتمّ تحديد مهلة زمنية للانسحاب، وهو ما يدعو الى الارتياب من القرار، الذي تمّ إبلاغ الأمم المتحدة به، دون تفاصيل، كما أن لبنان لم يتبلّغ رسمياً به.
فسكان الغجر يشكلون عقدة ديمغرافية، حتى أن أوساطاً لبنانية رسمية، وقعت في حيرة من هذا الموضوع، إذ أن الدولة اللبنانية مع استرجاع كل شبر محتل، لا يمكنها قبول سكان غير لبنانيين على أرض لبنانية، يحملون هوية إسرائيلية، مما يضطرها الى طردهم من هذه الأرض والتعاطي معهم وكأنهم احتلال مقنّع، وهم استولوا على أرض ليست ملكاً لهم، ولا يحملون جنسيتها.
فالقرار الإسرائيلي، ما هو إلا محاولة للهروب من الأزمات التي تعيشها إسرائيل، لجهة صورتها في العالم، لأنها تتعاطى بسلبية مع القرارات الدولية، فهي رفضت وقف بناء جدار الفصل العنصري بين الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وقضمت أراضٍ وقسّمت المدن والقرى، وصدر قرار قضائي عن محكمة العدل الدولية في لاهاي لهدم الجدار ولم تنفّذه، كما هي لم تتجاوب مع تقرير غولدستون الذي أدانها في جرائم قتل أثناء الحرب على غزة في العام 2008 و 2009، وهي قتلت ركاباً على سفينة الحرية التركية التي كانت متوجهة إلى غزة لفك الحصار عنها، ومدها بالمواد الغذائية والطبية.
وتبيّن أن هناك رغبة أميركية، وراء القرار الإسرائيلي، تقوم على نزع مبرّر من المقاومة حول بقاء سلاحها، واستمرار وجودها، إذ بالانسحاب من الغجر، وتحت عنوان تنفيذ القرار 1701، فإن ذلك يعطي قوى “14 آذار”، ورقة قوية بأن المقاومة الدبلوماسية نجحت في إخراج قوات الاحتلال، مما يعني أن لا حاجة للمقاومة العسكرية، ولا معنى لاستمرار السلاح، طالما لا توجد أرض محتلة، في حين إن المقاومة، تردّ بأن عملياتها هي التي أخرجت إسرائيل من لبنان، لا القرار 425 الذي لم ينفذ منذ صدوره في العام 1978، إلى حين فرض المقاومة خروج الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط في 25 أيار 2000.
والانسحاب من الغجر، في جزئها اللبناني، لا يعني الخروج من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهو ما يعتبره مسؤولون لبنانيون، بأنه تطبيق استنسابي للقرار 1701 الذي لم تتحرك القوات الدولية، وتفرض على إسرائيل الانسحاب الفوري من دون قيد أو شرط، وهو التعاطي نفسه الذي تقوم به القوات الدولية مع إسرائيل، التي تتملّص من القرارات الدولية.
وتعاطى لبنان مع القرار الإسرائيلي على أنه ليس جدياً، بل عملية تمييع وتضييع للوقت وكسبه، وإلهاء المجتمع الدولي به، وغض النظر عن ما تقوم به إسرائيل من انتهاك للقرارات الدولية ولحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة، كما يهدف أيضاً إلى زرع شقاق بين اللبنانيين، وهم المختلفون على موضوع وطني مصيري، يتعلق بالمقاومة وسلاحها ودورها، حتى في الاستراتيجية الدفاعية، حيث لا يرغب فريق “14 آذار”، أن يكون للمقاومة أي دور فيها، والاكتفاء فقط بالجيش اللبناني وسلاحه الوحيد الذي تنحصر الشرعية فيه، إضافة إلى امتلاك الحكومة اللبنانية لقرار الحرب والسلم دون غيرها.
فالتوقيت الإسرائيلي للانسحاب من الجزء الشمالي من الغجر، جاء أيضاً في وقت ينتظر اللبنانيون فيه، صدور القرار الظني عن المدعي العام في المحكمة الدولية القاضي دانيال بيلمار، الذي تشير كل التوقعات المسربة في الإعلام ومن مراكز القرار الدولية، أن الاتهام سيتجه نحو عناصر من “حزب الله” الذي قرر مواجهته، حيث تستطيع إسرائيل وفي هذا الوقت أن تشكل أداة ضغط جديدة على المقاومة، التي ستقع تحت واقع يطالبها بنزع سلاحها، مع الخروج الإسرائيلي من الغجر، في وقت يكون القرار الظني قد بدأ يفعل داخلياً، لجهة التداعيات السلبية والفتنوية التي سيتركها، في الإشارة إلى أن عناصر من الحزب، ومن مواقع قيادية بارزة، هي وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
فللمرة الرابعة منذ العام 2006، تعلن إسرائيل أنها ستنسحب من الغجر، ولكنها لم تلتزم بأي موعد، وهو ما ترك المشككين بالقرار يؤكدون أن المناورة الإسرائيلية مكشوفة، ولبنان لن يقف ضد أي قرار بالانسحاب من أرض لبنانية محتلة، لكنه لا يعتبره عملياً، إلاّ إذا رافق ذلك عودة السيادة اللبنانية إلى كل الأراضي المحتلة، وانتشار الجيش اللبناني عليها.
Leave a Reply