كمال ذبيان – «صدى الوطن»
صارح رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب، المواطنين بالواقع المالي المزري الذي وصل إليه بلدهم، وأن دولتهم أصبحت مفلسة، بسبب تراكم الدين العام والعجز المزمن في موازنة الدولة، بعد عقود من استشراء الفساد في حقبة ما بعد اتفاق الطائف، لكنه أكد أن حكومته مصممة على حمل «كرة النار» لإنقاذ لبنان.
وما من شك في أن كلمة دياب، يوم السبت الماضي، كانت مفصلاً في تاريخ الحكومات اللبنانية لجهة مقاربة السياسة المالية للبلاد. فالرجل خرج ليعلن تعليق «سداد استحقاق 9 آذار (مارس) من اليوروبوند، لضرورة استخدام هذه المبالغ في تأمين الحاجات الأساسية للشعب اللبناني».
وهو الأمر –أي تعليق السداد– الذي يعد سابقة في تاريخ طويل من علاقة الحكومة بالدائنين، إذ لم يحدث للبلد الذي «تخطّى مجموع الدين العام فيه الـ90 مليار دولار، بما يشكل نحو 170 بالمئة من الناتج المحلي» وفق دياب، أن تخلّف قط عن استحقاقاته.
أول تحدٍّ
فالحكومة التي أطلقت على نفسها «مواجهة التحديات» كان أول تحدٍّ لها، هو استحقاق سندات «اليوروبوند» في 9 مارس، وهو عبء ورثته من حكومات سابقة، ومنها الحكومة المستقيلة برئاسة سعد الحريري، التي كان عليها أن تواجه هذا الاستحقاق لولا استقالتها.
وقد قرّرت حكومة دياب، تعليق الدفع، لأن لبنان ليس لديه المبلغ المطلوب وهو 1.2 مليار دولار من أصل 4.6 مليار دولار من الديون المستحقة بحلول نيسان (أبريل) وحزيران (يونيو) القادمين. وفضّلت الحكومة الحالية، بقرار جريء، أن تتخلّف عن الدفع، لأن المواطن اللبناني أحقّ باحتياطات الدولة من العملات الصعبة من أجل توفير رغيف الخبز والدواء والمعدات الطبية والمحروقات، التي هي حاجات ضرورية للبنانيين، قبل الدائنين الذين جنوا ثروات هائلة من السندات وفوائدها، سواء الداخلية منها والخارجية، وتحديداً القطاع المصرفي اللبناني الذي رفض مساعدة الحكومة في تأجيل الدفع، فقامت ببيع السندات إلى مؤسسة «أشمور» المالية، متهرّبة من مسؤوليتها في المساهمة بإنقاذ لبنان.
وعندما تحرّك المدّعي العام المالي القاضي علي إبراهيم بمنع تصرف رؤساء مجالس إدارة المصارف بأموالهم، ما دام القضاء قد تدخل لمعرفة مصير نحو 2.3 مليار دولار، تمّ تهريبها إلى الخارج في الأشهر الأخيرة، تحرّكت ضده مجموعة المصارف والتي لها شركاء سياسيون، في دفع مدعي عام التمييز غسان عويدات، إلى تجميد قرار إبراهيم، وكادت أن تتحول المسألة من مالية–قضائية، إلى مذهبية وسياسية، فظهرت مواقف تتحدث عن تحييد مصارف أصحابها شيعة، وأشار سياسيون إلى تغيير النظام الاقتصادي من حر إلى موجّه، كما أعلن الرئيس سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والبطريرك الماروني بشارة الراعي ، وغمز بعضهم من قناة الرئيس نبيه برّي، أنه هو مَن أوعز إلى المدعي العام المالي أن يتّخذ هذا القرار، وتمّ ربطه بموقف له من دور للمصارف في الاستيلاء، على أموال المودعين.
لبنان ليس الأول
قرار الحكومة اللبنانية بتأجيل أو تعليق دفع سندات «اليوروبوندز»، ليس الأول في تاريخ الدول، فقد سبقته إلى ذلك نحو 50 دولة، تعثّرت أو امتنعت عن الدفع، وآخرها اليونان وقبرص وفنزويلا والأرجنتين إلخ… لكنها المرة الأولى التي يمتنع لبنان عن تسديد دين مستحق عليه، وكانت الحكومات المتعاقبة تتباهى، بالدفع للمصارف والجهات الدائنة بانتظام.
لكن كلفة الدين الباهظة جداً على لبنان، تكاد أن تحوّله إلى بلد مفلس، في ظل أزمة مالية–اقتصادية مستعصية، بعد أن بات احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية لا يتجاوز 10 مليارات دولار، وفق خبراء ماليين، علماً بأن إحدى أبرز المشكلات مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تمحورت حول عدم تزويد المسؤولين بالأرقام الحقيقية حول موجودات المصرف، الذي كان يخرج إلى الإعلام مطمئناً إلى استقرار سعر صرف الليرة، والى الاحتياط الفائض، ليتبيّن أنه كان يضلل اللبنانيين الذين وضعوا أموالهم في المصارف، بعد أن أغرتهم الفوائد العالية،، لتذهب ودائعهم إلى مصرف لبنان الذي كان يموّل عجز الخزينة للكهرباء وخدمة الدين العام ورواتب القطاع العام، قبل أن تنكشف «الكذبة الكبيرة»، وهي عدم وجود احتياط كافٍ لدى مصرف لبنان مما تسبب بهبوط مفاجئ لسعر صرف الليرة الذي وصل إلى حدود 2700 ليرة أمام الدولار الأسبوع الماضي.
وفي أحدث تدخلاته، فرض مصرف لبنان، ألا يتجاوز سعر صرف الليرة لدى الصرافين أكثر من 30 بالمئة من قيمة العملة لدى المصارف، أي عند 2,000 ليرة للدولار الواحد كحد أقصى، لكن أغلب الصرافين لم يلتزموا بالقرار، وبات السوق أمام ثلاثة أسعار، الرسمي وهو 1,515 في المصارف، والسعر الذي حدده مصرف لبنان للصرافين بحوالي ألفي ليرة، ، إضافة إلى سعر السوق السوداء الخاضعة لقانون العرض والطلب.
المواجهة أم المفاوضات
وبعد اتّخاذ الحكومة قرارها بتعليق سداد الدين، بات أمام الدائنين في الداخل والخارج طريقان. إما الدخول في مفاوضات مع الحكومة وتحديداً وزارة المال، لهيكلة الدين، أو الذهاب إلى المواجهة عبر القضاء الدولي وفي عدد من المحاكم سواء في نيويورك أو باريس ولندن وجنيف، وغيرها من الدول التي قد يلجأ إليها الدائنون للمطالبة بأموالهم.
ومن المرجح أن يتجه الدائنون إلى التفاوض مع لبنان الذي يتخلّف للمرة الأولى عن السداد، وقد يعطى فترة سماح، ريثما يعيد ترتيب وضعه المالي، بإعادة هيكلة الدين، التي لا مفرّ منها، إلا إذا خضع الدائنون لقرارات سياسية خارجية، وطالبوا بالمواجهة، فعندها ليس أمام لبنان سوى المثول أمام المحكمة، وقد تعاقد مع شركتين أو مؤسستين معنيتين: الأولى حقوقية «كليري غوتليب»، والثانية مالية، «لازار»، لتقوما بالمفاوضات، أو المواجهة القضائية.
تقوم فكرة هيكلة الدين على استبدال دين سيادي قديم للدولة بدين سيادي جديد، وذلك بعد التفاوض مع الدائنين. وفي حال عدم التوصّل إلى صيغة مُرضية، سيكون بإمكان الدائنين رفع دعاوى قضائية على الدولة اللبنانية في الخارج، ما قد يؤدي إلى الحجز على بعض أصولها.
وبلغت قيمة الدين العام في لبنان لغاية تشرين الأول 2019، 87.1 مليار دولار، منها 32.51 مليار محرّر بالدولار و54.5 مليار محرّر بالليرة، فيما تشكّل سندات اليوروبوندز 93.6 بالمئة من مجموع الديّن المحرر بالدولار.
خارطة طريق
من جانبه، رسم الرئيس دياب خارطة طريق لحكومته بعد أن علّق دفع مستحقات الدين، لجهة هيكلة القطاع المصرفي، الذي انتفخ كثيراً، إذ يوجد نحو 62 مصرفاً، ليس لبنان بحاجة إليها كلها، وقد سبق لمصرف لبنان، أن لجأ إلى عملية دمج بعض المصارف، لاسيما لتلك المتعثرة، وهذا تدبير سيكون من ضمن برنامج الحكومة، لإنقاذ النظام المصرفي الذي أصيب بنكسة كبيرة، أدت إلى فقدان الثقة به.
ويعتبر القطاع المصرفي ميزة للبنان الذي صُنّف في ما مضى بأنه «سويسرا الشرق» ليس لجمال طبيعته فقط، بل أيضاً لاعتماده نظام السرية المصرفية، لكنه بات اليوم على شفير الانهيار بعد أن كان مصرفاً للعرب وغيرهم في المنطقة، وسط منافسة متزايدة من قبل البحرين ودبي ودول أخرى.
وجاءت الأزمة المالية–المصرفية لتكشف عن هشاشة القطاع المصرفي اللبنلني الذي سيكون أمام امتحان إعادة الهيكلة والتطهير من المتلاعبين بأموال المودعين، وهو ما وعد به الرئيس دياب، الذي بشّر اللبنانيين أيضاً، بأن الكهرباء ستكون على رأس أولويات حكومته، عبر الاعتماد على الغاز بدلاً من الفيول مما سيوفر على الخزينة حوالي 365 مليون دولار من أصل ملياري دولار تتكبدهما الموازنة سنوياً لتمويل الكهرباء التي أدت إلى تراكم الدين بنحو 35 مليار دولار على مدى عقدين من الزمن.
تقليص العجز
من الفوائد التي جناها لبنان، بتعليق تسديد «اليوروبوند»، تخفيض العجز في الموازنة 2,700 مليار ليرة، دون أن يعني إلغاء الدين، الذي يجري البحث في سبل تخفيفه عبر تخفيض الفائدة بالاتفاق مع المصارف التي جنت نحو 50 مليار دولار أرباحاً من فوائد الدين العام.
لقد كان رئيس الحكومة جريئاً وصريحاً بحديثه عن إفلاس الدولة دون أن يقطع الأمل في إخراجها من الحفرة التي أوقعتها فيها الطبقة السياسية الحاكمة، التي أهدرت المال العام ونهبت مقدرات الدولة، تحت أنضار القضاء العاجز عن محاسبة الفاسدين الذين جمعوا ثروات فاحشة بطرق غير شرعية.
كذلك يحسب لدياب تأكيده على ضرورة رفع السرية المصرفية، بتعديل قانونها، وقد تقدم عدد من النواب بمشاريع قوانين في هذا الإطار. كما تعهد رئيس الوزراء بمكافحة التهرّب الضريبي لتعزيز إيرادات الموازنة، إضافة إلى زيادة الضرائب بشكل تصاعدي على ميسوري الحال، ليتحمّل أصحاب الثروات، كما في دول أخرى، العبء الأكبر من الضرائب الجديدة مقارنة بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، ناهيك عن الإجراءات التي يجري التداول بها برفع سعر الوقود، وزيادة ضريبة القيمة المضافة إلى 18 بالمئة لانتشال الدولة من الإفلاس.
ولكن لبنان أصبح بالفعل دولة مفلسة… هذا ما قاله رئيس الحكومة!
Leave a Reply