بدأ لبنان يتّجه نحو «الدولة الفاشلة» التي لا يتمّ فيها تداول السلطة، ولا تكون الدولة المركزية مسيطرة على أراضيها، وتحفظ السيادة الوطنية، وتنفّذ القوانين.
مدرعة تابعة للجيش اللبناني عند معبر المصنع الحدودي مع سوريا |
فالتشبيه الذي أعطي للبنان، بأنه يسير نحو «الصوملة»، هو صحيح، لأن حكم القبائل في الصومال وتصارعها على السلطة، وغياب دولة القانون والمؤسسات، لا يختلف عما هو قائم في لبنان، لجهة صراع الطوائف والمذاهب على السلطة وتقاسمها، وقد احتمت وراء المادة 95 من الدستور، والتي أعطت فترة سماح للتخلص من الطائفية التي اعتمدت كتدبير مؤقّت في توزيع السلطات والوظائف بين الطوائف والمذاهب على أساس نسبي، على أن تلغى في مرحلة لاحقة في حال حصول «يقظة وطنية»، إلاّ أن المؤقت الطائفي تحوّل الى دائم، وأنتج نزاعات وحروب طائفية، أعطى إتفاق الطائف إجازة مرور للخروج منها والعبور الى الدولة المدنية والنظام اللاطائفي، لكن هذا الحل السياسي لم يتكرّس دستوراً، وانتقل لبنان من طائفية سياسية الى مذهبية سياسية، وبات الحديث اليوم عن ضرورة قيام مؤتمر تأسيسي دعا إليه «حزب الله»، أو عقد إجتماعي جديد طالب به البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، أو «طائف جديد» يدرس الثغرات التي برزت في إتفاق الطائف من خلال الممارسة، لاسيما ما يتعلّق بتفسير بعض بنوده، ثمّ في موضوع صلاحيات رئيس الجمهورية.
فلبنان وبعد مرور حوالي ربع قرن على الإعلان عن إتفاق الطائف، لم يطبّق منه أي بند إصلاحي يغيّر في النظام السياسي، لا بل جرى الإنقلاب عليه كما روى النائب والوزير السابق ألبير منصور في كتاب له صدر بعد مرور نحو ثلاث سنوات على هذا الإتفاق الذي نقل لبنان من الحرب الى السلم وبقرار دولي-إقليمي، بعد أن استنفدت المعارك العسكرية بين الميليشيات أهدافها، وانتهت الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي، ووافقت سوريا على حضور المؤتمر الدولي في مدريد للسلام، بعد أن شاركت في قوات التحالف بقيادة أميركا في إخراج الجيش العراقي من الكويت.
فإتفاق الطائف رسم خارطة طريق للبنانيين للوصول الى نظام سياسي لا يرتكز على الطائفية، وأنشأ هيئة وطنية لإلغائها على مراحل، كما نصّ على مسألة تكوين السلطة يقوم على قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي، لإنتاج مجلس نواب لا طائفي على أن ينشأ مجلس شيوخ تـُمثّل فيه الطوائف، لكن ما حصل هو أنه جرى القفز فوق هذه البنود الإصلاحية ولم يتم اعتمادها، مما رسّخ الحالة الطائفية والمذهبية، لا بل إنتقل الحديث عن مشروع قانون إنتخاب اقترحه ما سمّي «اللقاء الأرثوذكسي» الذي يضم عدداً من الشخصيات السياسية الأرثوذكسية، يقوم على أن تنتخب كل طائفة نوابها لتحقيق المناصفة الحقيقية كما قال مقدمو الإقتراح، بحيث لا ينتخب النائب المسيحي بغير أصوات طائفته ومذهبه، وهذا ما أعاد لبنان الى مرحلة المتصرفية عندما إنقسم جبل لبنان بين قائمقام درزي وآخر مسيحي، ومنذ ذلك الزمن قبل قرنين والطائفية السياسية تتكرّس في لبنان، وتزيد من الشرخ بين طوائفه والمنتمين إليها وتؤدي الى حروب دائمة فيما بينها.
ومشروع «اللقاء الأرثوذكسي» هو من نتاج عوامل ضعف الدولة، وتراجع بنائها على ما أوصى به إتفاق الطائف، الذي كلّف اللبنانيين للوصول اليه حوالي 150 ألف قتيل وآلاف الجرحى والمعوقين، وتدمير مدن وقرى وبنى تحتية وخسائر إقتصادية ومالية تقدّر بمليارات الدولارات، حيث أن عدم التوافق على قانون إنتخاب أدّى الى إرجاء موعد الإنتخابات النيابية لمدة 17 شهراً، والتمديد لمجس النواب، وهو ما ذكّر اللبنانيين في سنين الحرب التي كان النواب يجتمعون للتمديد لهم، تحت ذريعة إشتعال الحرب وإنحلال المؤسسات لا بل تشرذمها وإنقسامها بدءاً من المؤسسة العسكرية التي تقاسمتها الميليشيات الطائفية التي باتت أقوى من الجيش الذي كانت عملية تفتيته إحدى مؤشرات انفراط الدولة ومؤسساتها لصالح أمراء الطوائف الذين أقاموا دويلاتهم وإماراتهم وإداراتهم المدنية.
وعدم إجراء إنتخابات في موعدها المقرّر في أيار الماضي والتمديد لمجلس النواب، كان بداية إعلان فشل الدولة وإنهيار هيبتها أمام نفوذ وسيطرة «قوى الأمر الواقع»، إذ تمّ تبرير التمديد بإنعدام الأمن الذي تحوّل الى «أمن بتراضٍ» تفرضه الميليشيات على الدولة كما يحصل بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس، بالرغم من وضع الجيش والقوى الأمنية لخطط أمنية لوقف الاقتتال، لكنها كانت تصطدم بضعف القرار السياسي للدولة التي باتت بين معارك نيران الطوائف والمذاهب المتنقلة من الشمال الى البقاع فبيروت وصيدا، وهو ما يعني فقدان قوتها، بالرغم من أن الجيش يقف على مسافة واحدة من الجميع وقد أثبت ذلك في الميدان عندما كان يتدخل لوقف إشتباكات عسكرية بين القوى السياسية، إلا أن أخطر ما يطرح هو تحويل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وكأنها ضامنة لأمن هذه الطائفة أو تلك، وإعطاء الثقة لها على خلفيات إنتماء قادتها السياسي والطائفي، وهذا مظهر خطير من مظاهر تفتيت الدولة وإنحلال مؤسساتها الأمنية، إذ أن السائد في لبنان، أن السّنّة في لبنان يتّقون بقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات التابع لها لأن قادتهما هما من الطائفة السّنّيّة، وملتزمان سياسياً مع «تيار المستقبل»، وهو ما صرّح به المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي الذي تتهمه قوى «8 آذار» أنه منحاز لفريق سياسي وينفّذ أجندته، وهو ما تعكسه قوى «14 آذار» في علاقتها مع الجيش ومخابراته إذ تعتبر أن لـ«حزب الله» سيطرة ونفوذ على المؤسسة العسكرية من خلال بعض الضباط الذين ينسقون مع الحزب، إضافة الى وجود ضباط لهم ميول «عونية»، منذ أن كان العماد ميشال عون قائداً للجيش وبقوا معه في أثناء حروبه ضد «القوات» أو «حرب التحرير» ضد الجيش السوري.
ونقل الصراع السياسي الى داخل القوى الأمنية والعسكرية، هو عملية تهديم لها، وهذه خطة تخدم أعداء الدولة، وتفتح الطريق أمام القوى الإسلامية لاسيما التكفيرية والجهادية منها، الى قضم الأرض ومنع الجيش من فرض سيطرته لتحويل أماكن نفوذها الى «إمارات إسلامية»، وهو ما يحصل في طرابلس حيث يتنامى نفوذ الإسلاميين على حساب المجتمع المدني وزعامات طرابلس وأحزابها العلمانية.
فمع التمديد لمجلس النواب، ومحاولة تشتيت قوة الجيش فإن عدم تشكيل حكومة جديدة والخلاف السياسي حول ممّن ستتألف الى الحديث عن رفض وجود «حزب الله» فيها مع بقاء سلاحه في الداخل، ووجود مقاتليه في سوريا، حيث كشف التباعد في المواقف إذ تصر «8 آذار» على حكومة متوازنة تضم الجميع وفق أحجامهم النيابية، فإن 14 آذار ترفض أي صيغة يكون «حزب الله» جزءاً منها أو بيانها الوزاري يعتمد مقولة «الجيش والشعب والمقاومة».
وأمام هذه الشروط المتبادلة تتوقف عملية تشكيل الحكومة التي لا يستطيع رئيسها المكلّف تمام سلام، التقدّم لا نحو التشكيل إلا وفق صيغة حكومة حيادية أو 8+8+8، ويرفض تشكيلة 9+9+6، التي قبل بها النائب وليد جنبلاط وأيّدها كل من «حزب الله» وحركة «أمل» أو الإعتذار، لأن البديل عنه سيكون إما إعادة تكليف نجيب ميقاتي، أو بقاء حكومة تصريف الأعمال التي لا تزعج «8 آذار»، وهذا الوضع أرخى بثقله على الواقع السياسي، حيث ارتفع منسوب الخلاف الداخلي، الذي لم تنفع كل محاولات ضخ الدم في إعادة دورة الحياة الى الحوار الوطني، إذ تمّ تعطيل دعوات رئيس الجمهورية المتكررة، وأحبطت مبادرة الرئيس نبيه برّي الحوارية، وبات الجمود السياسي هو العنوان الأبرز، وبقاء كل طرف عند موقفه وفي موقعه لا يتزحزح، وهذا دليل على مدى ضعف الدولة التي لا تستطيع أن تدير سجناً، ولا أن تطبّق قانوناً لمنع التدخين، ولا قمع مخالفة بناء، ولا وقف هدر الأموال العامة، ولا تقديم موازنة منذ ثماني سنوات، ولا تعيين موظفين في الأماكن الشاغرة، واعتماد التمديد لقائد الجيش ورئيس الأركان، واللجوء الى الوكالة في مديرية قوى الأمن الداخلي، وتأخير حصول تشكيلات قضائية…
كل هذه التطورات تكشف عن أن لبنان بات دولة الفراغ في المؤسسات، ولو عبر التمديد القسري لها، وهذا يدل على أن الإستحقاق الرئاسي بإنتخاب رئيس جمهورية جديد بعد ستة أشهر ليس متوفراً حتى الآن، وأن الفراغ حاصل في رئاسة الجمهورية، إذا لم يحصل تمديد للرئيس سليمان على غرار سلفيه الرئيسين إلياس الهراوي وإميل لحود، وإيجاد مبرّر له، بأنه ضمانة للإستقرار الداخلي، الذي هو مطلب دولي، وهو قادر على إدارة الأزمة وعدم انفلاتها نحو الإنفجار.
فمجلس النواب معطّل عن التشريع بسبب الخلاف على الصلاحيات وآلية الجلسة وجدول أعمالها، والحكومة تصرّف أعمال دون أن تقترب من القضايا الملحة كموضوع النفط الذي بحاجة الى مراسيم تطبيقية لإلزام الشركات وإجراء عقود معها، وتحديد المناطق أو «البلوكات» التي سيتم التنقيب عن النفط فيها.
فالمؤشرات كلّها تدل على أن الدولة بدأت تفقد هيكلتها الدستورية، وهو أمر سبق أن مرّ لبنان فيه في فترات سابقة كان فيها مجلس النواب مشلولاً، ورئاسة الجمهورية بفراغ، وقيام حكومتين فيه، وإنقسام مؤسساته الإدارية والقضائية والعسكرية والأمنية، وكانت كلفة ذلك عالية جداً، وهو ما يدفعه اللبنانيون الآن من إقتصادهم الذي تراجع النمو فيه الى صفر بالمئة وفق دراسة للبنك الدولي ومؤسسات مصرفية، ثمّ في تراجع تدفق أموال المغتربين نحو مليار دولار سنوياً، وإنكفاء الحركة العقارية، وإنحسار المواسم السياحية، وعدم تقدّم الصادرات الصناعية والزراعية، وإرتفاع البطالة وزيادة الغلاء، وكل ذلك والمسؤولون يتقاتلون على جنس ملائكة الحكومة.
Leave a Reply