يتجه لبنان بخطى حثيثة نحو تكريس الإنقسام الواقعي الحاصل بين مكوّناته السياسية والطائفية بانقسام «دستوري» يلوح إحتماله بقوة مع تهديد رئيس الجمهورية إميل لحود بـ«اللجوء إلى صلاحياته» وإتخاذ «الخطوات الضرورية التي يفرضها عليه الدستور» لمنع تسليم السلطة في حال تعذر التوافق على رئيس جديد للجمهورية، إلى الحكومة الحالية التي يعتبرها لحود والمعارضة «فاقدة للشرعية».و«الخطوات الضرورية» التي يكرر الرئيس لحود نيته اللجوء إليها بات معروفاً أنها خطوة واحدة ولكنها كفيلة بإدخال لبنان في نفق أزمة دستورية تضع البلاد في مهب المجهول وهي خطوة تأليف حكومة ثانية موازية للحكومة الحالية التي يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة، رغم عدم تمتع الرئيس لحود بهذه الصلاحية بموجب دستور الطائف الذي يفرض على الرئيس إستشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس الوزراء وهو ما يحتاج إلى أكثرية نيابية لا تتوافر للحود بل إنها في الضفة الأخرى أي بيد فريق 14 آذار الذي يدعم الحكومة الحالية ويصرّ على شرعيتها كونها لا تزال تتمتع بثقة مجلس النواب وبأغلبية لم تصل عمليات الإغتيال بعد إلى إنقاصها إلى حدود التعادل مع الأقلية النيابية أو جعلها أقلية، وهو إحتمال يبدو بعيد المنال إذا أخفقت عمليات الإغتيال في تصفية أربعة نواب آخرين من الأكثرية الحالية في السباق مع الوقت نحو الموعد الرئاسي في أيلول المقبل.والرئيس لحود يدرك، بلا شك خطورة خطوة من نوع تأليف حكومة ثانية على وحدة البلاد وعبّر أكثر من مرة عن عدم تفكيره «حالياً» في هذه الخطوة وطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية لتجنب الكأس المرة لـ«حكومة ثانية» وتداعياتها المدمرة على وحدة الكيان اللبناني ومؤسساته. إلا أن لحود سيجد نفسه مدفوعاً إلى إتخاذ قرار من هذا النوع لتسديد فاتورة تمديد ولايته لثلاث سنوات رغم كل الإعتراضات الداخلية والدولية والتي صدر بشأنها قرار دولي هو القرار 1559 الذي دعا إلى إحترام المواعيد الدستورية وإنتخاب رئيس جديد للبنان قبل أيام قليلة من إتخاذ الرئيس السوري قراره النهائي بالتمديد للحود خلافاً للرغبة الدولية ولرغبة فريق من اللبنانيين رغم إنصياع بعض القيادات آنذاك لهذا القرار تحت ضغط النفوذ السوري قبل إنكفائه إثر جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري.
الجيش آخر قلاع الوحدةوإذا كان لبنان قد نجح في تجاوز أكثر من قُطوع أمني وسياسي منذ جريمة 14 شباط 2005 وذلك بفضل تماسك المؤسسة العسكرية وبقائها على «الحياد» في الصراع السياسي الذي تشهده البلاد ونجاحه في حماية «التظاهرات المليونية» التي اجتاحت العاصمة اللبنانية في أكثر من محطة منذ عامين ونصف العام، فإن المعارك التي يخوضها الجيش اللبناني حالياً ضد تنظيمات إرهابية في الشمال اللبناني والتي تستنزف قدراته، وواقع إنتشاره على الحدود الجنوبية بعد عدوان تموز الماضي وتنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 والأعباء الأخرى في حفظ الأمن الداخلي الذي يتعرض لإهتزازات مستمرة بواسطة عمليات الإغتيال والتفجير المتنقلة فضلاً عن الإنقسام السياسي الداخلي حول دوره، يجعل من إستمرار إمساكه بالأمن وتماسكه في وجه هذا الإنقسام العميق والخطير على المستوى الطائفي والسياسي، عملية بالغة الصعوبة والتعقيد وتهدّد وحدته كون تركيبته مرآة للتركيبة اللبنانية الطائفية والمذهبية المعقدة والحساسة. ولعل الإمتحان الفعلي والأخطر الذي ستواجهه المؤسسة العسكرية بعد الإمتحان الحالي الذي تخوضه بجدارة في مخيم نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي، هو موقفها في حال قيام حكومة ثانية قبل إنتخابات رئاسية متعذرة أو مشكوك بدستوريتها في حال حصولها، وإلى أي حكومة، سيكون ولاء المؤسسة العسكرية.وهل سيكون بمقدورها البقاء على «الحياد» في الصراع على السلطة الذي سيتخذ أشكالاً «دستورية» حادة قد تترجم بصراع على الأرض، وهل سيبقى في مقدور الجيش اللبناني المشتت على أكثر من جبهة القيام بمهمة فك الإشتباك السياسي والأهلي الذي تتبلور معالمه كلما اقتربنا من موعد الإنتخابات الرئاسية بعد نحو أربعة أشهر؟ربما لن يكون نجاح الجيش اللبناني في حسم المعركة ضد «فتح الإسلام» في مخيم «نهر البارد» نهاية معمودية الدم والنار التي خاضها بجدارة وقدم خلالها أكثر من 80 شهيداً من نخبة وحداته القتالية، فهذا الجيش سيبقى في الأشهر الفاصلة عن موعد الإستحقاق الرئاسي عرضة لـ«إمتحانات» جدية على الحدود مع عدوّ متربص لإستغلال أول فرصة سانحة في محاولة «إعادة الإعتبار» إلى هيبة جيشه التي مرّغتها المقاومة اللبنانية خلال عدوان تموز العام الماضي مما أحدث زلزالاً سياسياً في داخل الكيان الصهيوني لا تزال تداعياته تتوالى، ومن أبرزها سقوط وزير الدفاع عمير بيرتس وحلول الجنرال العسكري والسياسي إيهود باراك في منصب وزير الدفاع بعد فوزه في إنتخابات حزب العمل وتعهده بـ«إعادة الهيبة» إلى قوة الردع الإسرائيلية التي هزت المقاومة اللبنانية صورتها للمرة الثانية في أقل من ثماني سنوات.وليس بعيداً عن الحدود مع عدد متربّص، يضطلع هذا الجيش بمهمات مراقبة حدود طويلة مع الجارة الشرقية والشمالية للبنان لضمان عدم تسلّل مقاتلين وأسلحة إلى الأراضي اللبنانية بموجب إلتزام لبنان بالقرار الدولي 1701 الذي أنهى حرب تموز العدوانية الإسرائيلية على لبنان وأتاح لهذا الجيش بسط سيطرته على الحدود الجنوبية للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً وبموافقة كل الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية.
رسالة الكاتيوشاوفي الوقت الذي يشرف الجيش اللبناني على هزيمة «فتح الإسلام» في المخيم الشمالي في معركة فرضها عليه هذا التنظيم الإرهابي عندما بادر بصورة غادرة إلى ذبح أكثر من عشرين من جنوده ويثأر لكرامته المستباحة على أيدي مسلحي هذا التنظيم يحبط مخططاً إرهابياً لإقامة «إمارة إنفصالية» في الشمال اللبناني، ويحضر فجأة تحدٍ جديد لدوره وإنتشاره على الحدود مع العدوّ الإسرائيلي من خلال صواريخ الكاتيوشا «السياسية» المنطلقة من الجانب اللبناني للحدود فيسقط بعضها في مستعمرة «كريات شمونة» محدثاً أضراراً مادية طفيفة في محاولة لإستدراج عروض لعدوان إسرائيلي جديد على لبنان وجيشه فيما لا يزال اللبنانيون، والجنوبيون على الأخص يلملمون آثار عدوان تموز الماضي وفيما الجهود الداخلية والعربية والدولية منصبة على تجنيب لبنان كأس «العرقنة» الذي حملته طلائع «فتح الإسلام» إلى مخيم نهر البارد تمهيداً لتعميمه على مختلف المناطق اللبنانية لولا يقظة الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية التي نجحت في إحباط هذه الخطة الجهنمية. لكن حالة الإنقسام اللبناني المزرية تنذر بإبقاء هذه المخاطر ماثلة في كل لحظة مع توالي عمليات الإغتيال والتفجير التي تطال رموزاً سياسية ومواقع طائفية في محاولة لنقل الصراع السياسي القائم إلى شارع مشحون ومتوتر تسيطر عليه الغرائز الطائفية والمذهبية التي رأينا «نموذجا» عنه في «فخ الهواء» الذي وقعت فيه مذيعة لبنانية بعد إغتيال النائب اللبناني وليد عيدو الذي أجّج التوتر المذهبي والسياسي وأعاد كل الجهود المبذولة للخروج بالأزمة من عنق الزجاجة إلى النقطة الصفر.
عمرو موسى والمهمة المستحيلةوسط موجة الجنون الأمني الجديدة، المتمثلة بآخر جريمة إغتيال في أحد أكثر شوارع بيروت حياة وإختلاطاً وتفاعلاً وما تلاها من حفلة «جنون سياسي» يصل الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى العاصمة اللبنانية على رأس وفد وزاري عربي إنتدبه مؤتمر وزراء الخارجية العرب الطارئ الذي انعقد الأسبوع الماضي لبحث تداعيات الوضعين الفلسطيني واللبناني بعد «تحرير» غزة من السلطة الفلسطينية على يد مقاتلي حركة حماس وسيطرتهم على كامل القطاع وما تلاه من إنهيار لحكومة الوحدة الفلسطينية، في محاولة يائسة لإقناع الأطراف اللبنانية بـ«أن لهم دوراً» في معالجة أزمتهم إن أرادوا، رغم كل التعقيادات والمؤثرات الإقليمية.يهبط عمرو موسى هذه المرة مباشرة إلى «الطابق اللبناني» من الأزمة ويجول أفقياً على أطرافها في مهمة تبدو أقرب إلى رفع العتب عن العرب الذين استنجد بهم فريق لبناني لـ«ردع الشقيق السوري» الذي يتهمونه بزعزعة الأمن والإستقرار في لبنان فيرد هذا الشقيق بإقفال أحد شرايين الإتصال بين «الدولتين والشعب الواحد» المقيم فيهما وذلك إستباقاً لأي طلب عربي بضبط هذه الحدود وفي رسالة غضب من هذا «التدخل» العربي في الشأن اللبناني الذي رفضته سوريا باستمرار.لقد بات جليّاً أن تعقيدات الوضع اللبناني قد تخطت قدرة العرب وجامعتهم وأنظمتهم على لجم التدهور اللبناني المتسارع وما مسارعة الأمين العام للجامعة إلى القول فور وصوله إلى بيروت إنه لا يحمل مبادرة لحل الأزمة بل جاء «لتشجيع اللبنانيين» على إستعادة حوارهم الداخلي، سوى إقرار مُبكّر باستحالة المهمة التي كلّفه مجلس وزراء الخارجية العربي بها في بيروت وهي إستحالة تنطبق بصورة موازية على الواقع الفلسطيني الذي تمخض عن إنفصام خطير على المستوى التمثيلي لشعب كافح عشرات السنين للوصول إلى دولة فإذا به يرى «دولتين» منفصلتين في تحقيق لحلم إسرائيلي بتقطيع أوصال الشعب الفلسطيني بين «إمارة غزة الإسلامية» و«مقاطعة فتح العلمانية» فيما يرى فيه بعض «المحللين» اللبنانيين إنتصاراً للحركة الإسلامية الأصولية على «14 آذار الفلسطيني» وفي إيحاء غير مباشر لإمكانية العثور على «نسخة لبنانية» «للإنتصار» «الحماسي» في غزة مع قيام حكومتين لبنانيتين وربما رئيسين، فتستكمل الصورة العربية الجديدة ملامحها التقسيمية المتشكلة من عراق الأقاليم الثلاثة المضرجة بدماء العراقيين، لكن دون محاولات وساطة عربية في تلك الأرض التي يخشى أنها فقدت هويتها العربية منذ وقوعها فريسة للغزو والإحتلال والتدخل الخارجي.على أن هذه الصورة القاتمة للمشاهد اللبنانية والفلسطينية والعراقية سوف تشتد قتامة في الأشهر القليلة المقبلة التي لا تبشر احتمالاتها سوى بشرور مستطيرة، اللهم إلا إذا حدثت معجزة وبُعث على رأس الأزمات المتوالدة «أنبياء سياسيون» في «جمهوريات»تعجّ «بالشياطين».
Leave a Reply