وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
على الرغم من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه البلاد، تبقى التجاذبات السياسية حول الأزمات الإقليمية والدولية سيدة الموقف على الساحة اللبنانية، حتى لو كان الأمر يتعلق بصراع يبعد آلاف الكيلومترات.
ففي آخر فصول الانقسام اللبناني أحدث بيان أصدره وزير الخارجية عبدالله بوحبيب حول الحرب الروسية الأوكرانية، امتعاضاً واسعاً لدى بعض اللبنانيين بسبب انحيازه الواضح إلى أوكرانيا، بما يخالف مبدأ النأي بالنفس الذي تنادي به الدولة اللبنانية، لاسيما أن لروسيا حلفاء كثراً في لبنان استنكروا بل استهجنوا بيان الخارجية وأدانوه بأشد العبارات.
وقد تكفلت «المصادر المطلعة والمقربة» بتبادل الاتهامات وإلقاء اللوم، ليحسم الجدل وزير الخارجية نفسه بالقول إن البيان لم يكن من «عندياته» بل حاز مسبقاً موافقة الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي ومباركتهما.
موقف حرج وضع لبنان نفسه فيه، وكان بغنى عنه، فاستعداء روسيا في هذا التوقيت بالذات، لن يجلب للبلد سوى المزيد من الخصوم والمشاكل، في وقت هو في أشد الحاجة فيه إلى من يقف إلى جانبه للخروج من أزماته المتراكمة، التي لا تُعد ولا تُحصى، وسط تساؤلات كثيرة عن جدوى الدخول في سجال حول حرب لا ناقة للبنان فيها ولا جمل!
لبنان «المغلوب على أمره» والذي يخشى غضب سفارة عوكر، التي تهدده بوقف المساعدات للجيش اللبناني وبعدم مساعدته في مفاوضات ترسيم الحدود، بل وبتشديد الضغوط الاقتصادية عليه، شرح موقفه للروس مسبقاً قبل صدور البيان، مع التأكيد بأن كل ما ورد في البيان طُلب كتابته حرفياً من قبل السفيرة الأميركية، وهذا ما حدا بالروس إلى تفهّم الحرَج اللبناني وعدم رفع السقف عالياً، والاكتفاء بتوجيه العتب واللوم، وهذا ما ظهر في اللقاء الذي جمع بوحبيب بالسفير الروسي، حيث بدا واضحاً أن موسكو لم تسجّل على لبنان هذا الموقف «المستهجَن». وقد أوفد رئيس الجمهورية مستشاره النائب السابق أمل أبو زيد للقاء نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في موسكو، لكن الأخير رفض استقباله بعد ما تردد حول نية لبنان التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لصالح مشروع إدانة روسيا، وهو ما حصل بالفعل، الأربعاء الماضي، حيث صوّت لبنان مع القرار الذي يدين روسيا ويطالبها بوقف فوري للحرب، إلى جانب 140 دولة وامتناع 35 ومعارضة خمس دول فقط.
التنصل من البيان
مجلس الوزراء لم يدرج بيان الخارجية في جدول أعماله رغم الزوبعة التي أُثيرت حوله، وهو ما يعطي الانطباع عن نيةٍ ما لتحميل بوحبيب وحده المسؤولية، مع أنه ما كان ليجرؤ على صوغ بيانه من دون التشاور مع رئاستي الجمهورية والحكومة، فيما أكدت مصادر عين التينة أنه لم يجرِ التشاور قط مع الرئيس نبيه بري أو استمزاج رأيه. رغم كل ذلك، تطمئن مصادر مطلعة إلى أن البيان المستهجَن والذي خالف الأعراف اادبلوماسية في التخاطب بين الدول الصديقة، لن يكون سبباً في تجميد العلاقات أو فتورها بين لبنان وروسيا، ولن يكون أيضاً سبباً في دفع بوحبيب إلى الاستقالة كما حصل مع وزير الإعلام السابق جورج قرداحي، فالطرف المستغضَب هنا هو روسيا وليس السعودية!
عتب روسي وترحيب أوروبي
في هذا الوقت، أكدت السفارة الروسية في لبنان أنّ «بيان وزارة الخارجيّة أثار الدهشة لدينا بمخالفتها سياسة النأي بالنفس واتّخاذها طرفاً ضدّ طرف آخر في هذه الأحداث، علماً بأنّ روسيا لم توفّر جهداً في المساهمة بنهوض واستقرار الجمهورية اللبنانية».
وبطبيعة الحال، رحّبت العواصم الأوروبية من جهتها، ببيان الخارجية اللبنانية، وزار سفيرا فرنسا وألمانيا لدى لبنان وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بوحبيب لشكره وبلاده على البيان حول الأزمة الأوكرانية –الروسية، وتمنّيا استمرار لبنان على موقفه.
وكان لبنان قد أدان «اجتياح» الأراضي الأوكرانية، داعِياً روسيا إلى «وقف العمليات العسكرية فوراً وسحب قواتها منها والعودة إلى منطق الحوار والتفاوض كوسيلة أمثل لحلّ النزاع القائم بما يحفظ سيادة وأمن وهواجس الطرفين، ويسهم في تجنيب شعبي البلدين والقارّة الأوروبية والعالم مآسي الحروب ولوعتها».
الأمن الغذائي
الأزمة الناشئة عن الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تلقي بظلالها القاتمة على مختلف الدول، العظمى منها والصغيرة، فكيف الحال بلبنان، البلد المنهك اقتصادياً، والذي يعتمد في تأمين حاجاته الغذائية بغالبيتها على الاستيراد.
وفي ظل انسداد ممرات الاستيراد بسبب الأزمة الأوكرانية، دق لبنان ناقوس الخطر في ما يتعلق بأمنه الغذائي، فما لديه من مخزون القمح لا يغطي حاجة السوق سوى لأربعين يوماً، أما باقي الحبوب والزيوت النباتية فلا تكفي سوى شهرين، علماً بأن نسبة بيع الزيوت النباتية زادت منذ اندلاع الحرب بنسبة 300 بالمئة وفقاً لمسح ميداني أجرته وزارة الاقتصاد، وهو ما يعكس خوف المواطنين من اختفاء هذه السلعة الأساسية.
وتداركاً للأزمة، عقد وزير الاقتصاد اجتماعاً مع عدد من كبار المستوردين للبحث في إيجاد حلول وبدائل لتدارك الأزمة قبل نفاد المخزون، على أن تكون الوجهة الجديدة ربما باتجاه رومانيا وهنغاريا وصربيا وبلغاريا، فيما أبلغت كل من تركيا والجزائر كبار المستوردين في لبنان عدم قدرتهما على تصدير الحبوب في ظل الأزمة العالمية. كما تم الاتفاق خلال الاجتماع على تحديد موعد للاجتماع مع رئيس الحكومة بحضور ممثلين عن المصرف المركزي ووزارة الاقتصاد ووزارة المالية ومستوردي المواد الغذائية بهدف تأمين موافقات مسبقة وسريعة مخصصة لاستيراد القمح، وكذلك السعي إلى تأمين ممرات بحرية من البلدان المقترحة، تستغرق مدة وصول الشحنة منها عشرة أيام كحد أقصى.
هي خطة استباقية عملية قد تنجح في تجنيب لبنان من الدخول في أزمة غذاء خطيرة إذا تم تنفيذها، ولكن، وبالنظر إلى ما سبق من سلوك المصرف المركزي وآلية عمله الفاشلة التي لم تأخذ في الاعتبار يوماً مصالح الناس وحاجاتهم، يُطرح السؤال هنا: هل سيوافق مصرف لبنان على الاعتمادات السريعة؟
وفي الإطار نفسه، أكد وزير الاقتصاد أنه تبلّغ من عدد من السفراء استعداد بلادهم لمساعدة لبنان لتزويده بالقمح وتخزينه، أما في ما خصّ الزيت النباتي فالمستوردون ينتظرون ردود عدد من الشركات العالمية التي يمكنها توفير البديل.
وفي شأن حياتي متصل بالأزمة العالمية المستجدة، لفت رئيس تجمّع الشركات المستوردة للنفط، مارون شماس، إلى أنه لا أحد يمكن أن يتوقّع إلى أي مستوى يمكن أن تصل أسعار المحروقات، مرجّحاً أن تشهد البلاد خلال الشهر المقبل شحاً في المشتقات النفطية بسبب صعوبة إيجاد الأسواق البديلة.
اللبنانيون العائدون
المواجهة الروسية الأطلسية تركت بصماتها في مختلف المجالات، ولا سيما في الشأن الإنساني. فقد وصلت عند الأربعاء الماضي، الدفعة الأولى من اللبنانيين الموجودين في أوكرانيا، ومن بينهم 40 طالباً أتوا عبر مطار بوخارست، بعدما استضافهم رجل الأعمال اللبناني في رومانيا، الدكتور محمد مراد، في أحد فنادقه على نفقته الخاصة، كما قام أيضاً بتأمين تذاكر السفر لهم من أجل عودتهم إلى لبنان. وكان في استقبال العائدين في مطار بيروت رئيس الهيئة العليا للإغاثة، اللواء محمد خير، والأهالي الذين شكروا للدكتور مراد اهتمامه بأولادهم وتأمين وصولهم إلى بيروت.
اللواء خير قال بدوره إن العدد الذي تمّ تسجيله لدى السفير اللبناني في أوكرانيا هو 960 مواطناً لبنانياً، تسجّل 450 منهم للتوجه إلى بولونيا، وقد دخل منهم حتى الآن 250 شخصاً، والعدد نفسه تقريباً على الحدود سيتوجهون إلى وارسو. وأشار خير إلى أنّ هناك أشخاصاً فضّلوا الذهاب إلى أوروبا، كما أعلن أنه خلال 48 ساعة المقبلة ستصل طائرة أخرى تقلّ لبنانيين من وارسو.
وأوضح أن المواطنين اللبنانيين يتعاونون في ما بينهم ويقدّمون المساعدات والتبرّعات، لافتاً إلى أن الهيئة العليا للإغاثة برئاسة الحكومة مجبرة على قبول تلك المساعدات، ومبادرة اليوم تمّت من خلال أحد رجال الأعمال مشكوراً وهو الدكتور مراد. و»كل من يقدّم المساعدة مرحب به من خلال التنسيق مع الهيئة العليا للإغاثة».
وأكد اللواء خير أن عدداً من اللبنانيين ما زالوا موجودين في أوكرانيا، وفقاً لرغبتهم الشخصية، على الرغم من الخطر، لكنّنا على تواصل معهم. وتحدث أيضاً عن تنسيق مع الصليب الأحمر الأوكراني إضافة إلى التواصل مع وزارة الخارجية الأوكرانية والسفارة اللبنانية في كييف لإخراج مَن تبقّى، آملاً بإتمام العملية في أسرع وقت.
Leave a Reply