كمال ذبيان – «صدى الوطن»
كما كان متوقعاً من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسمية والحزبية، أن يكون شهر رمضان في لبنان ساخناً أمنياً، ففي مطلعه هزّ إنفجار منطقة فردان في بيروت استهدف «بنك لبنان والمهجر» واقتصرت أضراره على الماديات، وجاء على خلفية قانون العقوبات الأميركي على «حزب الله» لمحاصرته وقاعدته الشعبية مالياً واقتصادياً، لكن تداعياته تمّ حصرها وتطويق الخلاف حول تفسير وتطبيق القانون بين المصارف أو بعضها والحزب.
ومع اختتام شهر رمضان، نفّذ ثمانية إرهابيين عمليات تفجير في بلدة القاع عند الحدود اللبنانية–السورية في البقاع الشمالي، إذ استيقظ أهالي المنطقة مع فجر الإثنين على دوي إنفجار تبعته ثلاثة أخرى، تبيّن أنه ناجم عن تفجير أربعة إرهابيين أنفسهم بأحزمة ناسفة تزن 2 كلغ لكل حزام من المتفجرات، وهو الأسلوب الجديد المعتمد من قبل الإرهابيين في عملياتهم بعد تشديد الرقابة على السيارات المفخخة، ولسهولة تنقل هؤلاء، والدخول بين تجمعات المواطنين لإحداث أكبر عدد من القتلى والجرحى وأضرار مادية، وهو ما استخدم في أكثر من تفجير حصل منذ حوالي العام في برج البراجنة وجبل محسن.
ولماذا استهداف القاع التي تجاور رأس بعلبك والفاكهة والهرمل؟ لأنها نقطة عبور برية الى سوريا بإتجاه حمص، وتقع فيها أراضٍ زراعية واسعة، يستثمرها أهاليها، فيما يسمى «مشاريع القاع»، ويعمل فيها حوالي سبعة آلاف عامل زراعي سوري منذ عشرات السنين، إلا أن اندلاع الأزمة السورية، حوّل البلدة كما البقاع والشمال الى بؤر توتر، مع النزوح السوري الى هذه المناطق التي كانت أكثر كثافة في استقبال النازحين، لاسيما الذين أتوا من بلدة القصيّر في ريف حمص التي حرّرها الجيش السوري و«حزب الله» من الإرهابيين الذين فروا مع عائلاتهم الى عرسال وجرودها، والقاع ومشاريعها التي كان أفراد من عرسال قد استولوا على أجزاء واسعة من أرض القاع غير المفرزة عقارياً، مستغلين ظروف الحرب الأهلية وغياب الدولة، فجاء النازحون الى هذه الأراضي وأقاموا تجمعاً لهم كان على تواصل مع المسلحين في عرسال.
فبعد تحرير القصيّر وقارة ويبرود في جرود جبال القلمون السورية، ارتاح القاعيون كما أهالي البقاع الشمالي والهرمل عموماً، من خطر اجتياح بلداتهم، بعدما نجح الجيش السوري و«حزب الله» في خوض حرب إستباقية ضد المجموعات الإرهابية من «داعش» و«النصرة»، من مناطق السلسلة الشرقية للجهة السورية، التي كان يستخدمها المسلحون للتواصل عبر بعض المعابر بإتجاه الداخل السوري، لكن الجيش اللبناني حاصرهم بعد الهجوم الواسع على مواقعه ومراكزه في 2 آب (أغسطس) 2014 داخل بلدة عرسال وعند تخومها، وتحوّلت البلدة الى محتلة من قبل الإرهابيين وفق وصف وزير الداخلية نهاد المشنوق لها.
فمنذ عامين والبقاع الشمالي والهرمل وبعلبك، يعيشون في أمن وآمان مع إبعاد الإرهابيين عن بلداتهم ودحرهم من كل المناطق الحدودية المتاخمة، والتي كانت مراكز لقصف البقاع، وإرسال سيارات مفخخة إليه، وتسلل مسلحين منها الى الداخل اللبناني، لكن الإنجاز العسكري الذي تحقق في طرد المسلحين، أعاد الهدوء الى المنطقة، وأقفلت الحدود بين لبنان وسوريا، أمام الإرهابيين وتنقلاتهم، ولم يعد لبنان «خاصرة رخوة» للنظام السوري، بل ورقة قوية بيده، مع تعطيل فاعلية الحدود اللبنانية سواء في الشمال أو البقاع الشمالي.
وإزاء هذه التطورات، وانتقال المعارك الى أماكن بعيدة عن الحدود اللبنانية، وباتت في حلب ودير الزور والرقة، وتمكن لبنان من إبعاد الحريق عنه، إلا من بعض العمليات الإرهابية التي استهدفته، لاسيما في المناطق التي لـ«حزب الله» بيئة شعبية حاضنة له كمقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي، حرّرت الأراضي اللبنانية منه، أو في مواجهة المجموعات الإرهابية التكفيرية، التي أسقط مشروعها في لبنان، من أن يكون «أرض نصرة أو جهاد» كما رغب زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، وبات لبنان خارج «دولة الخلافة الإسلامية» التي أقامها «أبو بكر البغدادي» في الرقة كعاصمة لها، بعد السيطرة على الموصل ومناطق واسعة في غرب العراق كالأنبار والفلوجة وديالا.
ومع إخراج لبنان من أهداف المشروع «الإسلامي الداعشي»، وتحرير تدمر من التنظيم، لم يعد أمام الإرهابيين سوى التخريب في لبنان، مع كل إندحار لهم في منطقة من سوريا أو العراق، فكان توقيت العمليات الإنتحارية في القاع، متزامناً مع ما أعلنه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، بأن معركة حلب قد بدأت وهي تأخرت أشهراً، مع إعلان الهدنة في 27 شباط (فبراير) الماضي، إثر إتفاق أميركي–روسي بعد طرد الإرهابيين من تدمر وأرياف حمص وأجزاء واسعة من حماه، ومحاصرتهم في ريف دمشق، وكانت موسكو ترغب في إعادة إحياء مفاوضات جنيف بين النظام السوري ومعارضيه، لكن لم يحصل ما توقعته، إذ استفاد الإرهابيون من وقف إطلاق النار، لتعزيز قدراتهم العسكرية في إدلب وريفها، كما في بعض مناطق حلب وأريافها الغربية والشمالية والجنوبية، وهو ما شكّل نقطة خلاف أو تباين بين روسيا من جهة والقيادة السورية وإيران و«حزب الله» من جهة ثانية، مع إلتقاط المجموعات الإرهابية أنفاسها، واستعادة المبادرة والهجوم على مواقع الجيش السوري وحلفائه، وخسارة مناطق استراتيجية في خان طومان وتل العيس وغيرهما.
ومع إعلان السيد نصرالله عن بدء معركة حلب بالتنسيق والتعاون بين روسيا وإيران وسوريا، إثر اجتماع لوزراء دفاع هذه الدول في طهران، وبدء العمليات الحربية، وعودة طائرات «السوخوي» الى الميدان، وإرسال «الحرس الثوري الإيراني» لآلاف المقاتلين، وكذلك فعل «حزب الله»، فإن الإرهابيين قرّروا الرد، من خاصرة رخوة في القاع، فتمّ استهداف البلدة، في ليلة مظلمة، انكشف فيها المجرمون الذين تساقطوا مع أحزمتهم الناسفة بمواجهتهم من بعض أهالي القاع، الذين سقط منهم خمسة شهداء وحوالي عشرين جريحاً، على مرحلتين، صباحية وقبيل منتصف الليل، ليتبيّن أن الإنتحاريين هدفهم البلدة الحدودية ذات الكثافة السكانية المسيحية، لتهجير أهلها، مع قرى مسيحية مجاورة كرأس بعلبك، حاولوا مرات عدة التسلل إليها فصدّهم الجيش الذي كان عزز وجوده العسكري فيها، فنشر حوالي خمسة آلاف ضابط وعسكري وعشرات الآليات والمدافع وأبراج المراقبة وهو ما أعطى الأمان والأمن للمواطنين، إضافة الى وجود المقاومة وسراياها في الحدود والجرود والمناطق، وقد استغل الإرهابيون حالة الإسترخاء في المنطقة ليتسللوا ليلاً الى القاع وينفذوا مخططهم الإجرامي الذي تصدى له أبناء البلدة الصامدة، فأفشلوه، بعد أن كان الرعب من «داعش» يسبقها، فيهرب المواطنون ويفرون من مجازرها، وهذا ما حصل في الموصل وسنجار ومناطق في سوريا، إلا أن القاع كما بلدات أخرى، وقفت بوجه مشروع تهجيرها فلم تسقط في يد الإرهابيين، لتكون نقطة إنطلاق لهم بإتجاه مناطق أخرى، فإفتدت بدماء شهدائها وجرحاها وصمودها لبنان، وهكذا تمكّن اللبنانيون من دحر المشروع الإرهابي، الذي يضرب في كل العالم، حيث أثبت وطن الأرز، صاحب المساحة الصغيرة، أنه كبير في مقاومته لمشروعين صهيوني وتكفيري.
فلم يسقط لبنان في القاع، بل اجتمع أبناؤه حول إدراك الخطر التكفيري، وإن كان فريق في «14 آذار»، مازال يروّج بأن مشاركة «حزب الله» في القتال الى جانب النظام السوري، هو الذي استدرج الإرهابيين الى لبنان، وليس وجود مليون ونصف مليون نازح سوري، تكتشف الأجهزة الأمنية المئات منهم المنتمين الى مجموعات إرهابية، قرّر تنظيم «داعش» إرباك «حزب الله» في لبنان، مع بدء معركة حلب.
فتوقيت العمليات الإرهابية، ليس منفصلاً عما يجري في سوريا والعراق. وما جرى في القاع ليس النهاية، بل بداية وتتوقع الأجهزة الأمنية أن تتوسع الى مناطق أخرى، وأن التقارير الدبلوماسية التي صدرت عن بعض السفارات في لبنان، لاسيما الغربية منها، تحذّر مواطنين لها من السفر إليه، وهو ما أقلق اللبنانيين مع تحديد مناطق ستحصل فيها تفجيرات، وهي تعج بالمطاعم وتصنّف سياحية، كما في استهداف دور عبادة لاسيما الكنائس، في إشارة الى أن كل لبنان في دائرة الخطر.
فما حصل في القاع من تفجيرات، أعاد لبنان الى عامين ماضيين عندما شهد سلسلة من العمليات الإرهابية، وهي متوقعة، ولا يبعد عن أماكن المعارك في سوريا، سوى مئات الكيلومترات، وأن الصيف الساخن الذي حذّر منه السيد نصرالله، ها هو بدأ من مطلعه، حيث حرارة الطقس مرتفعة، ولبنان يتأثّر بموجة رياح ساخنة آتية من الصحراء، وها هي عواصف أمنية تهب عليه من مجموعات إرهابية تدق عواصم العالم، وكل ما يحتاجه لبنان، هو أن يقتنع فريق سياسي فيه، أن «داعش» خطر وجودي، لا كما يصفها سمير جعجع، أنها من تصنيع النظام السوري.
Leave a Reply