عتمة وطوابير بنزين وصيدليات بلا دواء…
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يستمر الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان مهدداً بسقوط الدولة وزوالها، وفق أكثر من مسؤول دولي، عدا التقارير الصادرة عن مؤسسات دولية وإقليمية وحتى لبنانية، كان آخرها تقرير للبنك الدولي، يتحدث عن أن لبنان لم يعرف أزمة كالتي يمرّ بها اليوم منذ القرن التاسع عشر، وأنه الثالث من بين عشر دول، تعيش وضعاً صعباً جداً على كل الصعد السياسية والمالية والاقتصادية والخدماتية والمعيشية.
تقرير البنك الدولي
تحذير البنك الدولي الذي صدر أواخر الشهر الماضي، وهو ليس الأول من نوعه، يؤكّد أن لبنان غارق في انهيار اقتصادي يضعه ضمن قائمة أسوأ الأزمات العالمية، وسط غياب لأي أفقٍ محلي أو إقليمي أو دولي لإخراجه من أزمته التي تزداد تفاقماً في ظل الشلل السياسي القائم.
وبينما توقع البنك الدولي أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في لبنان، الذي يعاني من كساد اقتصادي حاد ومزمن، بنسبة 9.5 بالمئة في العام 2021، يستمر التقاعس السياسي في إيجاد حلول إنقاذية، أقلها تشكيل حكومة جديدة لتولي السلطة التنفيذية التي تقع على عاتقها مسؤولية مواجهة التحديات الهائلة التي يواجهها اللبنانيون في حياتهم اليومية.
وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن نذر أزمة لبنان بدأت تظهر في منتصف تسعينيات القرن الماضي، نتيجة السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية والفساد الذي مارسه مَن تولوا السلطة في لبنان بعد اتفاق الطائف وصولاً إلى ما بعد خروج القوات السورية.
إذ أثبتت القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم، بكل تلاوينها وأطيافها، سواء من هم في خط المقاومة أو المناهضون لها، أو مَن كانوا حلفاء لسوريا أو أعداء لها. فهؤلاء جميعاً، يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلاد الأرز، وإن بنسب مختلفة. فهم كانوا جميعاً في موقع القرار، ولو تمايزوا أحياناً، وهذا التوصيف هو ما توصل إليه، الموفدون الدوليون والعرب، من أن الطبقة السياسية هي التي أوصلت لبنان إلى هذا الانهيار، وآخرهم كان وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، الذي وضع ثقته بقوى حية في المجتمع، ودعاها في لقاء مع ممثلين عنها إلى الإنخراط في الانتخابات النيابية المقبلة لإحداث التغيير المنشود.
العتمة
تداعيات الانهيار في لبنان تكاد ألّا تُعد ولا تُحصى، لكن انقطاع الكهرباء، هو بلا شك أبرزها، خاصة وأن ملف الكهرباء هو الأفصح في التعبير عن فشل الطبقة السياسية وفسادها.
فالعتمة التي تمّ التحذير منها في الماضي، أصبحت اليوم أمراً واقعاً بالرغم من عشرات مليارات الدولارات التي أهدرتها الدولة منذ التسعينيات لإصلاح القطاع الذي من المفترض أن يكون قطاعاً مربحاً لولا أن السياسيين آثروا تحويله إلى «مغارة علي بابا والأربعين حرامي».
وُعد اللبنانيون في العام 2015، بأن تعود الكهرباء 24 ساعة على 24 يومياً، فإذا بهم اليوم يعيشون انقطاعاً كلياً لكهرباء الدولة التي باتت تأتي ساعتين يومياً في أحسن الأحوال، لكن الأسوأ بالنسبة للبنانيين الذين لطالما اعتمدوا على اشتراكات المولدات الخاصة لتوفير الكهرباء، أنهم باتوا اليوم مهددين بالعتمة الشاملة، بعدما أعلن أصحاب المولدات عن تراجع قدرتهم في إنتاج الكهرباء، بسبب النقص الحاد في المازوت.
فما كان ينطبق على مؤسسة كهرباء لبنان، من شحّ الفيول، بات يسري أيضاً على أصحاب المولدات بسبب شح المازوت والبنزين الذي لم يعد متوافراً إلا بالقطارة، معيداً اللبنانيين إلى الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود، في مشهد يذكّر بزمن الحرب الأهلية.
بل في الحقيقة، لم يعرف الشعب اللبناني مثل هذه الأزمة الحادة قط، وهو ما دفع الحكومة المستقيلة إلى توقيع مرسوم بفتح اعتماد في «مصرف لبنان»، لحساب وزارة المال، من أجل تمويل استيراد الفيول، وذلك بعد أن أوقف المجلس الدستوري، قانون سلفة أقره مجلس النواب لشحن الفيول، قبل أن تعطله كتلة «الجمهورية القوية» (القوات اللبنانية) بتقديم طعن أمام المجلس الدستوري الذي أخذ به.
وفي مقابل رفض «مصرف لبنان» لتمويل الفيول من «الاحتياطي الإلزامي»، طلب وزير المال غازي وزني –بكتاب موقع من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب– صرف المبلغ بشكل عاجل، كحل مؤقت لأزمة مستمرة تطال كل القطاعات الحيوية.
كوارث بالجملة
العتمة التي دخل فيها لبنان، تواكبها أزمات أخرى، كفقدان الأدوية، والمواد والأجهزة الطبية، مما انعكس على عمل المستشفيات وصحة المرضى، فأقفلت أقسام في المراكز الصحية، وأعلنت نقابة الصيادلة عن إغلاق نحو 600 صيدلية، بسبب النقص في الأدوية.
وقد لجأت الصيدليات إلى إضراب تحذيري من أن الدواء بات شبه مفقود، ما ينذر بمزيد من الكوارث على اللبنانيين الذين فقدوا قدرتهم الشرائية ووظائفهم، فارتفعت البطالة في صفوفهم إلى نحو 400 ألف عاطل عن العمل من القطاع الخاص، الذي يواصل تخفيض الأجور حتى بات الحد الأدنى يساوي 45 دولاراً شهرياً، وهو بين الأدنى في العالم، خلف أثيوبيا.
ويبدو أن أزمات لبنان في طريقها إلى مزيد من التعقيد، لاسيما مع بدء الرفع التدريجي للدعم الحكومي لاستيراد السلع الأساسية، تحت شعار ترشيد الدعم. فقد أعلن «مصرف لبنان» بوضوح أنه لن يستطيع الاستمرار في دعم المحروقات والدواء والمواد الغذائية، بعد أن وصل «الاحتياطي الإلزامي» إلى الخط الأحمر، بوجود 16 مليار دولار فقط لدى المصرف المركزي، وهو مبلغ يكفي لمواصلة الدعم لمدة عام ونصف العام تقريباً، وصرفه يعني صرف على ما تبقى من أموال المودعين في المصارف.
الكابيتل كونترول
في ظل الانهيار المالي والاقتصادي، والتوجه إلى رفع الدعم، فإن مصرف لبنان، أصدر قراراً، أعلن فيه بأن المودعين الذين لهم حساب دون خمسين ألف دولار، يمكنهم السحب منه ابتداء من مطلع تموز المقبل، وفق آلية تسمح للمودع بسحب 400 دولار نقداً، والقيمة نفسها بالليرة اللبنانية على سعر منصة «صيرفة»، التي أنشأها المصرف المركزي، بسعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد على مدة سنة، بحيث يكون ما سحبه المودع نحو 9,600 دولار، وهو ما قصده حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بإرضاء المودعين الصغار الذين لا يتعدى حسابهم عشرة آلاف دولار، فيكون قد خفف ما بين 750 ألف إلى 850 ألف حساب ويظهر أنه أمين على أموال المودعين لاسيما الصغار منهم.
لكن الآلية التي اقترحها سلامة لاقت اعتراضاً فورياً رفضاً لتكرار أزمات تسببت بها تعميمات سابقة لمصرف لبنان، مثل تحديده لسعّر الدولار على منصة المصارف بـ3,900 ليرة، والسعر الرسمي 1,507، فيما تُركت السوق السوداء للعرض والطلب، فوجدت ثلاثة أسعار متسببة بمزيد من الفوضى وحالة عدم اليقين.
وكان آخر ما ابتدعه سلامة سعر منصة «صيرفة» عند 12 ألف ليرة للدولار، وهو ما لم يلتزم به الصرافون، إذ وصل السعر الأسبوع الماضي إلى أكثر من 14 ألف ليرة، مما فاقم الأزمة، ودفع مجلس شورى الدولة إلى إصدار قرار بوقف العمل بسعر 3,900 ليرة، مما ألهب الشارع مجدداً، فخرج المودعون يطالبون بودائعهم.
لكن الرئيس عون سارع إلى امتصاص النقمة، بإجراء تسوية بين حاكم مصرف لبنان ومجلس الشورى، بينما يظل المودعون حائرين حول مصير مدخراتهم وماهية «الكابيت ل كونترول».
Leave a Reply