أكثر من مئة ألف غادروا البلاد منذ العام 2019.. والحبل على الجرار
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عرف لبنان ثلاث هجرات كبيرة، الأولى كانت في أواسط القرن التاسع عشر وامتدت إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عشرينيات القرن الماضي. أما الموجة الثانية، فكانت أكبر وتزامنت مع الحرب الأهلية التي امتدّت من منتصف السبعينيات حتى مطلع التسعينيات. أما الموجة الثالثة التي نعيشها منذ سنوات قليلة، فقد بدأت مع ظهور بوادر الانهيار المالي والاقتصادي واندلاع الحراك الشعبي في أواخر العام 2019.
الهجرة الأولى
الهجرات من لبنان، كانت تعقب دائماً أحداثاً سياسية ودموية وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة. إذ أن الهجرة الأولى كانت نتيجة نشوب حرب طائفية، بين الدروز والمسيحيين الموارنة في إطار الصراع على جبل لبنان، الذي كان يتّجه نحو قيام «إدارة ذاتية» تحت سقف السلطنة العثمانية، فاقتتل الدروز والموارنة على الحكم، في حرب دامت منذ عام 1840 حتى العام 1864، باتفاق الدول العظمى على بروتوكول للحكم الذاتي في جبل لبنان، من خلال إنشاء قائمقاميتين، الأولى في جبل لبنان الجنوبي يتولاها قائمقام درزي، والثانية في جبل لبنان الشمالي يتولاها قائمقام ماروني.
ومنذ ذلك الحين عرف اللبنانيون الطائفية السياسية كما شهدوا أولى موجات الهجرة الواسعة خلال الصراع الدرزي الماروني الذي استمرّ نحو ربع قرن ودفع نحو 330 ألف شخص إلى مغادرة الجبل على مدى العقود التالية التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، عرف جبل لبنان استقراراً سياسياً في ظل الانتداب الفرنسي الذي عمل على تأسيس دولة «لبنان الكبير» بقرار الجنرال هنري غورو في مطلع أيلول 1920، وذلك عبر ضمّ الأقضية المجاورة إليه، فتوسّع لبنان وانحسرت الهجرة إلى نطاق ضيق اقتصر على الأفراد الساعين وراء الرزق. فكانت وجهات اللبنانيين الأسايسة أميركا الجنوبية، لاسيما البرازيل والأرجنتين وفنزويلا والمكسيك، وإلى القارة الإفريقية، التي كان اللبنانيون روادها اقتصادياً.
بعد الاستقلال الذي تزامن مع الحرب العالمية الثانية، خفت هجرة اللبنانيين ووصلت إلى حدودها الدنيا خلال الخمسينبات والستينبات وصولاً إلى منتصف السبعينيات التي شهدت بداية أكبر هجرة جماعية في تاريخ لبنان بعد انفجار الحرب الأهلية في نيسان 1975.
ومع احتدام الحرب وتشعبها، اشتدت وتيرة الهجرة لاسيما بعد سقوط مدن وبلدات بيد المتحاربين وحصول عمليات تهجير جماعي، واحتراق وسط بيروت التجاري، فكانت وجهات الهجرة الأولى سوريا وقبرص ومصر ودول الخليج لتتوسع لاحقاً لتشمل أوروبا ثم أميركا وكندا وأستراليا وأفريقيا.
وبلغت موجة الهجرة الثانية ذروتها في الثمانينات ليصل عدد المهاجرين إلى نحو 1.3 مليون نسمة، وهو رقم قياسي في تاريخ الهجرات اللبنانبة.
وبحلول التسعينيات وعودة الاستقرار إلى لبنان بموجب اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب ومهد لإعادة الإعمار وانتعاش اقتصادي وهمي مدفوع بتثبيت سعر صرف الليرة أمام الدولار والتركيز على السياحة دون الالتفات لتأسيس اقتصاد منتج. وكما هو معروف فإن القطاع السياحي يهتزّ وينهار عند أي تطوّر سياسي وأمني سلبي، وهذا ما أدّى إلى نشوب الأزمة المالية والاقتصادية، التي انفجرت في نهاية عام 2019 ودفعت سائر القطاعات إلى الانهيار، لاسيما القطاع المصرفي الذي استخدم أموال المودعين –بقرار من «مصرف لبنان»– لتمويل نفقات الدولة التي تجاوزت ديونها، 90 مليار دولار، حتى حجبت المصارف أموال المودعين لتنكشف اللعبة بانهيار قيمة الليرة السريع وصولاً إلى أزمات متلاحقة ليس آخرها شح المحروقات والدواء والطحين والمواد الغذائية، التي قالت الحكومة السابقة أنها دعمتها بنحو 16 مليار دولار من احتياط مصرف لبنان الذي تدنى إلى 14 مليار دولار.
ومع توقف الدعم الحكومي للسلع الأساسية ازداد عدد الفقراء بشكل مضطرد ليشمل ما يقرب من 83 بالمئة من المواطنين، ليجد اللبنانيون أنفسهم مرة أخرى أمام موجة هجرة جماعية جديدة، عبرت عنها طوابير المواطنين الراغبين باستصدار جوازات سفر جديدة من الأمن العام، حيث بلغ معدل طلبات الجوازات نحو 32 ألف طلب شهرياً منذ مطلع العام الحالي.
وإذا كان وباء كورونا وتقييد السفر الدولي قد ساهما في الحد من وتيرة الهجرة خلال عام 2020، فإن أرقام العام الحالي تنذر بحدوث موجة هجرة كبيرة تفوق الأعداد المسجلة في عام 2019 الذي شهد هجرة نحو 60 ألف لبناني. علماً بأن عدد المهاجرين في العام 2020 لم يتجاوز 17 ألفاً، مقارنة بنحو 27 ألفاً هاجروا خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، الذي سجّل أيضاً ازدياداً هائلاً في طلبات الهجرة المقدمة إلى عدد من الدول.
الهجرة مَن تطال؟
طالت موجة الهجرة الأخيرة في مراحلها الأولى، الأطباء والممرضين، وسط انهيار سريع أصاب القطاع الصحي. إذ تشير الأرقام إلى هجرة نحو 1,500 طبيب من اختصاصات متعددة، إلى دول عدة، في مقدمتها البلدان العربية التي استوعبت النسبة الأكبر منهم في ظل شح الكفاءات الطبية، لاسيما في العراق، وأربيل تحديداً.
كذلك شهد قطاع التمريض هجرة نحو ألفي ممرض وممرضة بسبب انخفاض رواتب المستشفيات وإغلاق أعداد كبيرة من العيادات، وهو ما دفعهم إلى البحث عن فرص عمل في الخارج وأدى إلى فقدان لبنان لكفاءات وخبرات كبيرة.
ولم تقتصر الهجرة على الأطباء والممرضين، بل طالت القطاع التعليمي أيضاً، إذ غادر نحو 190 أستاذاً «الجامعة الأميركية في بيروت» على مدى العامين الماضيين، أي ما يعادل نحو 15 بالمئة من الكادر التعليمي لهذه الجامعة العريقة، ناهيك عن عشرات الجامعات الأخرى التي باتت عاجزة عن دفع أجور الأكاديميين.
وبالإضافة إلى قطاعي الصحة والتعليم، يمكن القول بأن الهجرة طالت جميع القطاعات الحيوية في البلد، وهذا يعني أن لبنان بات على أعتاب فقدان مكانته ودوره التاريخي بوصفه جامعة العرب ومستشفاهم ومصرفهم… بل تجاوزته عدة دول عربية حتى بات لبنان مجرد مصدّر للأدمغة والكفاءات إلى تلك البلدان.
ويمكن القول إن الهجرة الحالية تركّزت على مدى السنوات الثلاث الماضية في أوساط أصحاب الشهادات العليا وأبناء الطبقة الثرية، الذين ذهبوا بعائلاتهم إلى الخارج، وابتاعوا لهم منازل في قبرص وتركيا وأوروبا، كما أن العديد من الطلاب تسجّلوا في الخارج، بسبب الوضع السيء الذي تعاني منه المدارس كما الجامعات المحلية، وسط انقطاع للكهرباء وشح المحروقات وتدهور الاتصالات…
وبالإضافة إلى ظاهرة هجرة الميسورين والأكاديميين وأصحاب المهن الحرة، هناك فئة أخرى من المواطنين لطالما كانت الهجرة خيارها الوحيد، وهي فئة الباحثين عن فرص عمل، وأغلبيتهم من الشباب وأصحاب الشهادات وخريجي الجامعات، إذ لم ينقطع هؤلاء قط عن طرق أبواب السفارات طلباً للهجرة، وقد ضاقت السبل بهؤلاء إلى الحد الخوض في غمار الهجرة غير الشرعية.
وكما هو معروف عن اللبنانيين، فإن وجهات الهجرة ليست محصورة في دولة أو قارة معينة، بل تتوزع على الدول العربية أولاً –وتحديداً العراق في هذه الفترة– بالإضافة إلى أفريقيا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة وأستراليا، مروراً بقبرص وتركيا، اللتين تنشط عبرهما الهجرة غير الشرعية إلى الداخل الأوروبي الذي بات مثقلاً بالمهاجرين غير الشرعيين لاسيما من بلدان شمال أفريقيا.
وقد علِق الكثير من اللبنانيين في بلدان أوروبا الشرقية، مثل بيلاروسيا وبولندا، وهم في طريق هجرتهم غير الشرعية إلى عمق القارة العجوز.
أموال المغتربين
غير أن اللبنانيين لطالما نظروا إلى الهجرة على أنها سيف ذو حدين، فهي من جهة تحرمهم من أحبائهم ومن الكفاءات والأدمغة إلا أنها في الوقت عينه تشكل أساساً للاقتصاد اللبناني الهش.
إذ يشكّل الاغتراب ظاهرة اجتماعية وعماداً أساسياً لاقتصاد البلاد التي يقدر عدد سكانها بحوالي 4.3 مليون نسمة، بينما يصل عدد المغتربين اللبنانيين إلى نحو 15 مليوناً، بحسب التقديرات غير الرسمية. ولا يمكن لعاقل أن ينكر دور هؤلاء في توفير مقومات الصمود للشعب اللبناني الذي تقف دولته عاجزة أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.
ورغم ذلك، يدور حالياً سجال سياسي في أروقة القرار حول مشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية المقبلة –بعد أن مارس نحو 60 ألفاً منهم هذا الحق في انتخابات العام 2018. ويتركز السجال حول مصير المقاعد الستة التي خصصها قانون الانتخاب الجديد لتمثيل المغتربين، حيث يفضل البعض تأجيل تطبيق هذا القانون إلى الدورة الانتخابية التالية بسبب المعوقات التقنية واللوجيسيتية والسياسية.
ويبقى أن المغتربين هم أحد أهم ركائز الاقتصاد اللبناني، إذ تبلغ تحويلاتهم المالية نحو 8 مليارات دولار سنوياً، وقد ارتفعت إلى 12 ملياراً خلال الأزمة الراهنة، ولولا هذه الأموال لكان الوضع الداخلي أسوأ بكثير.
Leave a Reply