كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يضغط المجتمع الدولي على لبنان لتشكيل حكومة إنقاذية لانتشال البلاد من انهيار محقق، عبر الإسراع في تحقيق الإصلاحات الملحة لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي دفعت أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى تحت خط الفقر، فيما القوى السياسية المحلية تصر على المناورات المعهودة في مطالبها وحصصها ومكاسبها، وكأن لا كارثة تلوح في الأفق ولا نذر مجاعة باتت أقرب إلى الواقع أكثر من أي وقت مضى، بحسب تقارير دولية تحذر من أن «الأمن الغذائي» قد أصبح عند الخط الأحمر.
الحكومة متعثّرة
مر أكثر من أربعين يوماً على تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة التي أعلن بأنها ستعمل تحت المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون لمساعدة لبنان للخروج من محنته، بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي.
لكن الأطراف السياسية اللبنانية لا تزال تتلهّى بالقشور وتضع العراقيل أمام تأليف الحكومة التي من المفترض أن تكون إصلاحية وفق عناوين باتت معروفة، وهي: وقف الهدر ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهي عناوين لا يمكن أن تتحقق من دون إجراء تدقيق مالي شامل.
وحتى الآن، يبدو أن موافقة السياسيين على التدقيق المالي ليست إلا مناورة جديدة لإضاعة الوقت في ظل الخلاف حول الجهة التي سيبدأ منها هذا التدقيق الذي تمّ تطييره مؤقتاً، بعد فسخ شركة «ألفاريز آند مارسال» لعقدها مع وزارة المال.
وفي حين أن وزارة المال قد بدأت إعادة التفاوض مع الشركة آنفة الذكر وشركات تدقيق أخرى، بناء على توصية من مجلس النواب وطلب رسمي من رئاسة الجمهورية، يرى المراقبون أن هذه الخطوة لحفظ ماء الوجه، في ظل الاتهامات المتبادلة بين أركان السلطة الحاكمة، حول مَن تسبّب بالفساد، ففتحت ملفات الوزارات والإدارات والمصالح والمجالس والصناديق قضائياً وإعلامياً، ليتقدم ملف مكافحة الفساد، على تشكيل الحكومة، التي كلما تأخرت ولادتها، ينزلق لبنان أكثر فأكثر نحو الإفلاس.
فشبح الإفلاس الذي يخيم على خزينة الدولة، قد وصل إلى المصارف التي فرضت التقنين المالي على المودعين الذين باتوا محرومين من سحب أموالهم بالعملة الأجنبية والتي هم بحاجة إليها لتعليم أولادهم في الخارج. فقد سن قانون سمي بـ«الدولار الطالبي»، على سعر الصرف الذي حدّده مصرف لبنان، لكن الأهالي لم يتمكّنوا حتى الآن من الحصول على المبالغ لتحويلها للمستفيدين من القانون، وهم فقط الطلاب المسجلون سابقاً في جامعات ومعاهد في الخارج، دون أن يشمل مَن سيلتحق بجامعات جديدة، وهذا ملف لم يتمكّن أحد من المسؤولين من حلّه، لأن المصارف تمتنع عن الدفع للمودعين، في رسالة واضحة، بأن الأموال فيها باتت شحيحة، حتى الليرة اللبنانية، التي يقوم مصرف لبنان بطباعة أطنان منها، دون تغطية لها، مما رفع من معدل التضخم الذي أفقد اللبنانيين 80 بالمئة من قدرتهم الشرائية، ولم يعد باستطاعتهم الحصول على المواد الغذائية الضرورية التي ارتفعت أسعارها أضعافاً مضاعفة، بينما يدور الحديث عن رفع الدعم الحكومي للسلع الأساسية.
غياب الشعور بالمسؤولية
القوى السياسية في لبنان مكوّنة من ستة أحزاب أساسية، لها شعبيتها ونفوذها وقوتها داخل طوائفها وهي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» داخل الطائفة المسيحية، يضاف إليهما «الكتائب» و«المردة» في بعض المناطق، ثم «الحزب التقدمي الاشتراكي» برئاسة وليد جنبلاط في الطائفة الدرزية، و«تيار المستقبل» لدى الطائفة السّنّية، وحركة «أمل» و«حزب الله» في الطائفة الشيعية.
وبينما يفترض بهذه الأحزاب والتيارات أن يكون شغلها الشاغل تشكيل حكومة تتحمّل مسؤولية وقف الانهيار المالي واحتواء الأزمة المعيشية، فإن تلك القوى تبدو عالقة في لعبة الحكم، رغم أن المسألة لا تتعلّق بخلاف على قانون ما، بل ترتبط بمصير الشعب اللبناني، الذي تنتظره في الأشهر المقبلة، أزمة غذاء لا مفر منها، مع بدء نفاد الاحتياطي المالي لدى مصرف لبنان المركزي.
ولا شك أن غياب سلطة تنفيذية تتحمّل المسؤولية، سيؤدي حتماً إلى مزيد من انحلال الدولة والتدهور الاقتصادي، بينما تحاول حكومة تصريف الأعمال برئاسة الدكتور حسان دياب، القيام بالمهام التي يسمح بها الدستور. وعندما طالبها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بتوسيع مهامها في تصريف الأعمال، شُنّت حملة سياسية وإعلامية عليه، بأنه يتخطى صلاحياته الدستورية، لاسيما عندما ترأس اجتماعاً لمجلس الدفاع الأعلى، الذي أصدر قرارات مالية وإدارية، اعتبرها معارضو عون، خرقاً للدستور، متهمين إياه بالتلطي وراء مجلس الدفاع، لإصدار قرارات ليست من صلاحياته الدستورية التي تقتصر على الإجراءات العسكرية والأمنية والدفاعية. وقد ذهب البعض إلى اتهام عون بأنه يعيد البلاد إلى مرحلة نهاية الثمانينيات عندما ترأس حكومة عسكرية، فضلاً عن اتهامه بتحويل النظام إلى رئاسي على حساب صلاحيات رئيس مجلس الوزراء.
زيارة ماكرون
تتصاعد الأزمة السياسية مع تأخر تشكيل الحكومة، في ظل الخلاف المستمر بين مكونات النظام الطائفي، وتحديداً بين الرئيس الحريري والوزير السابق جبران باسيل، اللذين يعيشان قطيعة سياسية، بينما يصرّ الرئيس عون على أن يحصل تواصل بينهما، مطالباً الحريري بالوقوف على رأي صهره الذي يترأس أكبر تكتل نيابي مسيحي للتباحث معه في الأسماء والحقائب التي يقترحها للحكومة، كما فعل مع قوى سياسية أخرى.
لكن الرئيس المكلّف يصرّ على أن لا يشاركه أي طرف سياسي تأليف الحكومة، لأنه يريدها من مستقلين، وهو طرح غير دقيق نظراً إلى تواصله مع «الثنائي الشيعي»، كما مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي كشف أن الحريري طرح عليه وزارتي الخارجية والسياحة، فرفضهما، وهو ما يؤكّد بأن الحكومة لن تكون من مستقلين، وأنها لن تنال توقيع رئيس الجمهورية إن لم يكن التمثيل المسيحي فيها وازناً ومعبراً عن المكوّن الأساسي لدى المسيحيين.
موقف عون أدّى إلى انقطاع الرئيس المكلّف عن زيارة القصر الجمهوري، الذي عاد إليه الحريري دون أن يحمل معه ما اقترحه عليه الرئيس عون، فبقيت عملية التأليف معلقة إلى حين التوصل إلى اتفاق مع المكونات السياسية ورفض الشروط الأميركية وبعض الدول الخليجية بعدم مشاركة «حزب الله» في الحكومة. وهذا سبب خارجي في تأخير التشكيل الذي لا يُعرف مداه، مع انتظار لبنان زيارة الرئيس الفرنسي له في 21 كانون الأول الحالي، لتفقد جنود بلاده العاملين في القوات الدولية في الجنوب عشية عيدي الميلاد ورأس السنة، بحيث تعجّل زيارة الرئيس ماكرون، إبصار الحكومة النور، وقد أعطى مهلة للقوى السياسية حتى نهاية العام الحالي.
كما بدأ الاهتمام الدولي بلبنان، يتوسّع من الدائرة الفرنسية إلى الأوروبية، فدخلت ألمانيا على خط المساعدة، كما أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تحدّث بعد لقائه الرئيس الفرنسي، عن أن الدول العربية لن تترك لبنان غارقاً، وهذه إشارات إيجابية، لكن لا يبدو أن القوى السياسية في لبنان تأخذها على محمل الجدّ.
رفع الدعم
الانهيار الكبير سيحصل حال البدء برفع الدعم عن المواد الأساسية كالطحين والمحروقات والدواء وسلع غذائية أخرى، بعد أن وصل الاحتياط المالي في مصرف لبنان إلى نحو 800 مليون دولار، وهو مبلغ لا يكفي سوى لشهرين، إذا ما اعتمد ترشيد الإنفاق ورفع الدعم تدريجياً.
وقد بدأت الصرخة تعلو من أن الطحين المدعوم سيتاح فقط للخبز العربي، أما أنواع الخبز الأخرى فسترتفع أسعارها، وفق سعر الصرف للدولار في السوق السوداء.
وقد اتّخذ قرار بتخفيض الدعم عن بعض السلع في السلّة الغذائية، التي وُصفت بأنها غير ضرورية، فيما اكتشف اللبنانيون، أن المواد المدعومة تهرّب أصلاً إلى الخارج، دون أن تتّخذ إجراءات للحد من ذلك أو إلقاء القبض على المهربين الذين هم من التجار الكبار.
إن تجويع اللبنانيين قد بدأ من قوى سياسية، نهبت أموال الدولة التي سماها الرئيس الياس الهراوي، بأنها البقرة الحلوب، وهو ما يتأكّد يوماً بعد آخر، ومنذ عقود وعهود سبق أن فُتحت فيها ملفات فساد قبل أن تُنوّم مجدداً في الأدراج.
خلاصة القول، إنْ رُفع الدعم عن الغذاء الأساسي دون خطة إصلاح مالي وضرائبي تقودها حكومة جديدة، سيكون مصير اللبنانيين، الجوع حتماً…
Leave a Reply