كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أقلق تصريح وزير الداخلية اللبنانية نهاد المشنوق، المواطنين عندما أعلن أن السقف الإقليمي الذي أمّن الحماية للبنان بدأ بالتراجع، رابطاً موقفه من الإشتباك السياسي بين السعودية وإيران على خلفـية إعدام الشيخ نمر باقر النمر وانعكاسه على الداخل اللبناني، الذي يتأثّر بما يجري فـي محيطه من حروب إشتعلت قبل خمس سنوات، مع بداية ما سمي «ربيع عربي».
مسيرة في مدينة النبطية استنكاراً لإعدام الشيخ النمر. (السفير اللبنانية) |
ويعرف الوزير المشنوق من موقعه السياسي قبل الأمني، ومن علاقاته لاسيما مع المسؤولين السعوديين، أن الصراع السعودي-الإيراني بدأ قبل حوالي 35 عاماً، مع إنتصار «الثورة الإسلامية» فـي إيران بقيادة الإمام الخميني، والخوف من تصديرها الى الخارج ودول الجوار حيث الوجود الشيعي، الذي قد يتحرّك مع وصول آيات الله الى الحكم فـي الدولة التي كانت إمبراطورية الفرس فـي حقبة من حقبات التاريخ، وقد تعود مع المد الثوري الذي قد تحدثه فـي البيئات والتجمعات الشيعية، الموجودة فـي دول الخليج من السعودية الى البحرين والكويت وقطر، حيث حاولت هذه الدول، وقف تمدّد «الثورة الإسلامية»، أو تصديرها وقيام «إنتفاضات أو ثورات شيعية» فـي هذه الدول، وكانت الحرب العراقية-الإيرانية، إستباقية بوجه ما يسمى «خطر التشيّع» القادم من الجمهورية الإسلامية الصاعدة فـي إيران.
والحرب بين العراق وإيران فـي مطلع الثمانينات من القرن الماضي وإنتهت مع نهاية ذلك العقد، تأثّر بها لبنان الذي كان يعيش فـي احتراب داخلي، فتمدّد «الحرس الثوري الإيراني» إليه، وأنشأ «حزب الله» فـي العام 1985، والذي منه انطلقت «المقاومة الإسلامية» التي بدأت باكورة عملياتها العسكرية مع الإحتلال الإسرائيلي للبنان صيف 1982.
ففـي تلك المرحلة، ظهر «حزب الله» وبدأ معه يتكرّس النفوذ الإيراني، الذي نافس الوجود السوري، فحصل صدام بين المحورين، تمثل الأول بـ«حزب الله»، والثاني بحلفاء سوريا الذين كانت «حركة أمل» ملتصقة به مع «الحزب السوري القومي الإجتماعي»، وكان عنوان هذا الصراع، مَن يمسك بالمقاومة فـي لبنان، ولمن القرار فـيه وتحديداً فـي مناطق الجنوب والبقاع، فوقعت صدامات عسكرية بين «حزب الله» من جهة، و«أمل» و«القومي» من جهة ثانية، سبق ذلك تصفـية وجود حزب «البعث» الذي كان موالياً للعراق برئاسة صدام حسين، كما انتقل الإقتتال الى الفصائل الفلسطينية فـي المخيمات، وامتدّ الى طرابلس، ولم ينتهِ الصراع السوري-الإيراني، إلا بعد إتفاق بين دمشق وطهران على أن المقاومة هي القاسم المشترك بينهما، وهو ما جمعهما ليشكّلا معاً محوراً مقاوماً، بعد أن وقفت سوريا الى جانب إيران، فـي حربها مع النظام العراقي الذي رأت فـي فتحه للحرب، هو فـي غير توقيته ووجهته، بعد أن أعلنت الجمهورية الإسلامية، وقوفها الى جانب المقاومة فـي لبنان وفلسطين، ورفع الإمام الخميني شعار «إسرائيل غدة سرطانية» يجب أن تُقلع.
فالتمدد الإيراني كان سياسياً، وليس دينياً أو مذهبياً، مع تبني طهران لقضية فلسطين التي أصبحت قضيتها المركزية، بعد أن تخلى العرب عنها، وهو ما أدخل إيران الى فلسطين التي حوّل الإمام الخميني آخر يوم جمعة من شهر رمضان، هو للقدس، وهو ما أعطى إيران مشروعية وجود حلفاء واصدقاء لها فـي لبنان وفلسطين وسوريا، ودول أخرى، وهذا ما تركها تمتلك أوراق قوة تمسك بها فـي المنطقة، فعوّضت عن خسارتها الحرب مع العراق، من خلال المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وقد نجحتا فـي تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي عام 2000، وانسحابه منه، وهو ما فعله بعد أربع سنوات فـي غزة.
فمن فلسطين عبرت إيران الى الوجدان العربي، بعد أن فتحت صفحة جديدة من العلاقات مع الدول العربية، التي عانت من احتلال صدام حسين للكويت التي تكفّلت أميركا بتحريره، وهو ما حصل، لكن تأخر إخراج العراق من قبضة صدام حسين حتى العام 2003، بعد أحداث 11 أيلول 2001 فـي أميركا وتدمير البرجين فـي نيويورك، وجاءت نتائج الإجتياح الأميركي لبلاد ما بين النهرين لصالح إيران، التي كانت ضد الغزو الأميركي للعراق، وحذّرت من الفوضى التي ستضرب المنطقة وتقسّمها.
فالتوتر السعودي-الإيراني، كان دائماً موجوداً، وكان فـي مضمونه سياسياً، ولكن جرى تظهيره على أنه صراع سنّي-شيعي، حيث عملت دوائر القرار فـي الإدارات الأميركية المتعاقبة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على تأجيج الحرب بين إيران ودول عربية أخرى، لإذكاء الفتنة المذهبية، حيث قال وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر، تعليقاً على إندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، بأنها حرب المئة عام بين السّنّة والشيعة، على غرار تلك التي إندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت ودامت نحو قرن من الزمن.
من هنا، فإن إشتعال ساحات عدة فـي العالم العربي، تشارك فـيها السعودية وإيران بالوكالة، من سوريا الى العراق فاليمن والبحرين والسعودية ومعهم لبنان الذي وبعد خروج القوات السورية منه، إثر اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، انفتحت ساحته على صراع سنّي-شيعي جرى إخماده فـي أكثر من حدث سياسي أو توتر أمني، وتمكّن اللبنانيون من الخروج من عدة محاولات لتفجير بلدهم، بدءًا بإغتيال الرئيس الحريري، الذي اتّهم فـيه النظام السوري و«حزب الله»، ثم فـي مطالبة أميركا بتطبيق القرار 1559 بنزع سلاح «حزب الله»، وكان فريق «14 آذار» يطالب به، وتعهّد للإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش فـي العام 2005، بتطبيقه، لكنه لم يتمكّن، فقامت إسرائيل بعدوانها لتدمير السلاح لاسيما الصاروخي منه، الذي أخلّ بالتوازن مع الكيان الصهيوني، وشكّل قوة ردع للبنان، بعد خروج الإحتلال منه، فكان العدوان الإسرائيلي صيف 2006، وانهزمت إسرائيل، واستمرّت المقاومة وسلاحها، وهو ما إضطرها الى الردّ داخلياً على مَن يعمل لنزع سلاحها ومنه شبكة الإتصالات، فقام «حزب الله» بعملية عسكرية وأمنية فـي 7 أيار 2008، أعادت التوازن الداخلي، وفرضت حلا بشروط 8 آذار.
وكادت هذه الحوادث البارزة، أن تكون الفتيل الذي يشعل الفتنة السّنّية-الشيعية، التي كانت تستند الى صراع سعودي-سوري، وسعودي-إيراني، وكان الرئيس نبيه برّي، يدعو دائماً الى مصالحة سين – سين (سوريا والسعودية)، وقد حصلت فـي العام 2009، وخففت الإحتقان السياسي والمذهبي فـي لبنان، لتنفجر بعد عامين الأزمة السورية، التي سبق أن أطيح بها بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري من قبل «8 آذار»، ثمّ بإعادة نوري المالكي الى رئاسة الحكومة فـي العراق، رغم فوز كتلة إياد علاوي بفارق أربعة أصوات عن كتلة المالكي الذي دعمته إيران بوجه علاوي المدعوم من السعودية، وهو ما فجّر صراعاً سعودياً-إيرانياً، تصاعد مع الأحداث السورية، ثمّ انفجار الوضع فـي اليمن، واستمرار التوتر فـي العراق.
ففـي خلال فترة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي لم يشارك فـيها «تيار المستقبل» وحلفاؤه، نتج عن ذلك إندلاع 20 جولة قتال فـي طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، حيث تزامن نشوبها مع إنفجار الوضع فـي سوريا، والتي انقسم اللبنانيون حولها، مما زاد من تعقيد الأزمة فـي لبنان التي نفّستها إستقالة حكومة ميقاتي، وتسمية تمام سلام رئيساً للحكومة، التي لم تتشكّل إلا بعد حصول توافق سعودي-إيراني عليها، فأعلن الرئيس الحريري عن ربط النزاع مع «حزب الله» لقتاله الى جانب النظام فـي سوريا، الذي وقف «تيار المستقبل» وحلفاؤه ضده، وساهموا بتقديم الدعم المباشر للمعارضة السورية لإسقاطه، فلم ينجحوا.
وهكذا يعيش لبنان منذ العام ٢٠٠٦ فـي حالة من الإستقرار أحياناً، ومحاولة السقوط فـي صراع داخلي فـي بعض المراحل ، وهو إنعكاس لصراع خارجي، لكنه كان ينجو منه، لأن أصحاب القرار الدولي والإقليمي، لا يرغبون بتقجير لبنان، لأنه لا حاجة لهم فـيه فـي صراعات المنطقة، فاتّفقوا على إبعاده عن لعبة المحاور، التي يرتبط بها اللبنانيون خارجياً ويمارسونها داخلياً، وهو ما ترك الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وبعد تدخله فـي سوريا عام 2013، لمنع إنتقال الحرب منها الى لبنان، والتي تجري على حدوده، أن يدعو كل مَن يريد أن يقاتل فـي سوريا، أن يذهب إليها، ويبعد لبنان عنها، وهو ما حصل، ونجح «حزب الله» فـي تأمين حدود لبنان والحد من عبور الإرهابيين منها، لاسيما بعد تحرير مدن القصيّر والقلمون والزبداني منهم.
فالسقف الإقليمي يوجد فوقه سقف دولي يحمي لبنان، وهو ما إتفق عليه سفراء الدول الكبرى الذين سطّروا قبل سنوات مذكرة باسمهم وقدموها لرئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، أن الإستقرار فـي لبنان خط أحمر، وعلى اللبنانيين عدم القفز فوقه، فتمّ رسم حدود الملعب الذي يلعبون به، وطُلب منهم أن لا ينقلوا صراعات الآخرين الى أرضهم، وقد اشتهروا بها.
وما إن هدأ التوتر السعودي-الإيراني، الذي دخلت وساطات دولية على لجمه، إنخفض سقف الخطاب السياسي الداخلي، الذي تأثّر بإعدام الشيخ النمر، إلا أنه تمّ ضبط ردود الفعل، فلم تشهد الساحة اللبنانية، تحركات فـي الشارع، كما تسارعت الإتصالات لإستمرار الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» فإنعقد فـي جلسته الـ 14 فـي عين التينة واعطاه راعيه الرئيس نبيه بري علامة ممتازة وعشرة على عشرة وهو مؤشر إيجابي، وقد سبقته طاولة الحوار الموسعة، لينفرج اللبنانيون بعد تصعيد سياسي، الذي جرى ضبطه، من قبل طهران والرياض، اللتين شجعتا على استئناف الحوار، الذي قال الوزير المشنوق إنه الوحيد فـي العالم العربي، والأوحد بين السّنّة والشيعة، وأعاد التفاؤل الى اللبنانيين أن السقف الإقليمي مستمر فـي حماية لبنان، والأمن فـيه ممسوك، ويبقى على اللبنانيين التماسك فـيما بينهم، والعمل على إنتظام مؤسساتهم الدستورية، بإنتخاب رئيس للجمهورية الذي بات أمراً ملحاً، لأن غيابه يؤثّر على عمل السلطات والمؤسسات الأخرى، التي لا بدّ من تفعيلها، ومنها الحكومة التي ستعود الى عقد إجتماعاتها.
Leave a Reply