جرائم القتل في العالم ظاهرة معروفة ومنذ التاريخ الجلي، وهي أيضاً في لبنان، لكن هذا العام، كانت لافتة جداً، بارتفاع عددها، إذ بلغت خلال الأشهر الخمسة الأولى من العم ٢٠١٧، نحو 107 حادثة، وغالبيتها متعمدة، في زيادة كبيرة عما كانت عليه في العامين الأخيرين إذ سجّل 74 جريمة قتل خلال العام 2015، وأكثر قليلاً العام الماضي.
وقد أثارت هذه الجرائم المجتمع اللبناني الذي كان قبل سنوات من أكثر بلدان العالم أمناً، ليتفاجأ بوقوع جرائم مروعة لأسباب غير مبررة أحياناً، عدا عن جرائم القتل غير العمد بسبب إطلاق نار في الهواء، أو تبادل لإطلاق النار يسقط فيه أبرياء كما في قضية سارة سليمان في زحلة، أو القتل العمد كما في جريمة الطالب روي حاموش الذي وبسبب حادث اصطدام مروري بين سيارتين، عمد القاتل إلى تهديده ورفيقه بالسلاح، وطاردهما لمسافة نحو 5 كلم، وأردى حاموش قتيلاً فيما فرّ رفيقه. وتمكّنت القوى الأمنية في فرع المعلومات من إلقاء القبض على القاتل بعد ساعات من الجريمة التي حرّكت المجتمع المدني، باعتصام في ساحة الشهداء، وهو ما بات يتكرر كلما وقعت جريمة أو حادث ما، فيطالب المحتجون الحكومة بتطبيق القانون، والإسراع في المحاكمات والاقتصاص من المجرمين، الذين معظمهم من فئة الشباب، وبعضهم من أصحاب السوابق، ودخلوا السجن وخرجوا منه، وبعضهم من النازحين السوريين الذين تسبب وجودهم أيضاً بارتفاع معدلات الجريمة بشكل ملحوظ. كما أثارت الجرائم غضب أهالي الضحايا الذين اعترضوا على الأحكام المخفضة مما سهّل على القتلة أن يستمروا في جرائمهم، فاستباح «الزعران» البلد وأرواح الناس وفق وصف المواطنين الغاضبين وبعض المسؤولين.
الإعدام
من جانبه، وعد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن لا تمر هذه الجرائم دون عقوبات مشددة، وكلّف وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي مثّله في احتفال العيد 156 لقوى الأمن الداخلي، أن يعلن أن عقوبة الإعدام ستطبّق، وقد توقف العمل بها منذ العام 2004 إذ جرى في نهاية عهد الرئيس إميل لحود إعدام ثلاثة أشخاص، ولم يرفع أي وزير عدل منذ العام 2009 أي مرسوم لتنفيذ حكم إعدام صادر عن المحاكم، إذ أن وجهات نظر متعددة حول تطبيق هذه العقوبة القاسية، فمنهم مَن يدعو إلى العمل بها، والبعض الآخر يدعو إلى إلغائها من قانون العقوبات، لاسيما الجمعيات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، وتحاول أن تستنسخ تجارب حصلت في بعض الدول الغربية، وهو ما أثار انقساماً بين اللبنانيين، حول مفهوم هذه العقوبة التي يعتبرها البعض أنها تحدّ من الجريمة وتردع المجرمين، فيما يرى فيها آخرون أنها عقوبة وحشية، ويطرحون في المقابل أن تكون العقوبات من أجل الإصلاح، لا إزهاق أرواح البشر.
فحصيلة القتلى في الأشهر الخمسة الأولى من العام ٢٠١٧، بمعدل 22 قتيلاً شهرياً، ليست بالمسألة التي يمكن تجاهلها من قبل المسؤولين.
ووفق المعلومات فإن ما بين 80 و100 عقوبة إعدام صادرة حالياً، ستبدأ وزارة العدل بمراجعتها من أجل العمل على تطبيقها. وقد أعطى رئيس الجمهورية الضوء الأخضر، ليكون بداية عهده فرض القانون وتطبيق الأحكام باسم الشعب اللبناني، وللحد من الجريمة التي استفحلت لأسباب متعددة.
وقد افتتح معظم رؤساء الجمهورية عهودهم، بتنفيذ أحكام الإعدام، وهذا ما حصل بعد وقف الحرب الأهلية فتمّ تنفيذ تسعة أحكام إعدام في عهد الرئيس إلياس الهراوي، باستثناء بداية عهد الرئيس إميل لحود الذي امتنع رئيس حكومته سليم الحص عن توقيع مرسوم تنفيذ حكم الإعدام، مبرراً ذلك أنه ضد هذه العقوبة التي جرت محاولات لإلغائها، حيث تقدم عشرة نواب باقتراح قانون في العام 2008 لإلغاء هذه العقوبة دون أن يطرح على التصويت. ولم يحصل خلال عهد الرئيس ميشال سليمان تنفيذ عقوبة الإعدام مطلقاً، وقد شهد عهده تدهوراً أمنياً تفاقم عبر السنوات الماضية.
الانتحار
وفيما يضج المجتمع اللبناني بما يقع من جرائم قتل، برزت ظاهرة أخرى وهي الانتحار الذي ضرب في مناطق لبنانية متفرقة، وكان الشباب اللبناني ضحيته الأولى، إذ تسجل أسبوعياً حالة انتحار وأحياناً أكثر، وتشير الإحصاءات إلى ارتفاعها هذا العام إلى نحو 75 عملية انتحار في غضون خمسة أشهر، وتتعدد الأسباب حولها، من اقتصادية إلى عاطفية وعائلية ونفسية وتعاطي المخدرات.
ووصلت هذه الظاهرة إلى بلدات جبلية ومحافظة، حيث سجلت خلال أسبوعين 4 عمليات انتحار في الشوف، وثلاث أخرى في عاليه وراشيا، وإطلاق رجل دين درزي النار على زميله وأرداه قتيلاً في بلدة بعلشميه، مما يؤشر إلى أن اللبنانيين يعيشون في أوضاع متوترة على كل الصعد، إذ يضغط الوضع الإقتصادي والمعيشي، على الشباب الذين هم في سن العمل حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل نحو 400 ألف، أي نحو 10 بالمئة من الشعب اللبناني، و25 بالمئة من اليد العاملة والمهنية، كما سُجّل إحصاء نحو 300 ألف عائلة تحت خط الفقر، وارتفاع أعداد مدمني المخدرات والمتاجرين بها في أوساط الشباب وطلاب الجامعات.
العفو
وفي الوقت الذي يرتفع الصوت لتطبيق عقوبة الإعدام، فإن هناك مَن يطالب بإصدار عفو عام عن آلاف المطلوبين بجرائم المخدرات لاسيما في منطقة بعلبك الهرمل، وهناك من يطالب بأن يطال العفو متورطين بجرائم ضد الجيش اللبناني، ومتهمين بالانتماء إلى شبكات إرهابية، وتنفيذ أعمال تفجير ذهب ضحيتها أبرياء، ويطالب بالعفو عن هؤلاء أهالي المنتمين لمجموعات متطرفة، مثل جماعة أحمد الأسير، وآخرين من المنتمين إلى تنظيمات «جبهة النصرة» و«داعش» وكتائب عبدالله عزام، فيما يرفض أهالي الضحايا صدور أي قانون عفو بحق هؤلاء كما يرفض الرئيس عون ذلك، لأن أهالي الضباط والجنود الذين استشهدوا في عرسال وعبرا في شرق صيدا وفي طرابلس وأماكن أخرى، يرفضون أن يتكرر ما حصل عام 2005، عندما صدر قانون عفو عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي صدر حكم ضده، باغتيال الرئيس رشيد كرامي، وداني شمعون وعائلته، ومحاولة اغتيال إيلي حبيقة في زحلة، حيث خرج بالعفو مع جعجع، المسجونون في أحداث جرود الضنية، والتي نفّذها مسلحون تابعون لـ«مجموعة التكفير والهجرة» وأدّت إلى مقتل ضابط وعسكريين.
فالعفو يصدر من وقت إلى آخر في لبنان، لأسباب سياسية، وأحياناً إنسانية، وتمّ تخفيض السنة السجنية من 12 شهراً إلى تسعة، واتخذت إجراءات لتحسين أوضاع السجون والسجناء، إلا أن كل ذلك لم يمنع من استفحال الجريمة، وهي لن تتوقف في ظل الوضع اللبناني المهترىء، الذي تنخره الطائفية والعشائرية والقبلية والحمايات السياسية والحزبية، إضافة إلى عدم تحرير القضاء عن السلطة السياسية، وتأمين استقلاليته ليكون نزيهاً وحراً، ويصدر أحكامه دون تدخلات سياسية، وفق ما يجري في كثير من القضايا، مما أفقد الثقة بالقضاة، المفترض أنهم لا يتأثرون سياسياً أو حزبياً أو مادياً.
فهاجس الأمن يهزّ لبنان، بالرغم مما تحققه القوى الأمنية بكل فروعها، من مخابرات الجيش، والمعلومات في قوى الأمن الداخلي، والأمن العام وأمن الدولة، في كشف الجرائم وشبكات الارهاب، وكان آخرها الشبكة التي ألقى الأمن العام القبض على أفرادها الـ 11 الذين كانوا سينفذون عمليات إرهابية في أكثر من منطقة في لبنان، لاسيما في الضاحية الجنوبية.
كما أن الجرائم العشوائية المتنقلة وحوادث الانتحار، وضعت على مشرحة المختصين من أطباء نفسيين وعلماء اجتماع، للتدقيق بملفات التحقيقات الأمنية والقضائية لمعرفة الأسباب التي تحوّل لبنان مجتمعاً للجريمة، بعدما سجل في سنوات سابقة استقراراً أمنياً راسخاً.
تحصين القضاء
الإعدام يشق طريقه نحو التنفيذ، ولن يكون بعيداً، على أن يعطى القضاء كل الحصانة والحماية، لتشديد العقوبات، كي لا يخيفهم الاغتيال كمصير القضاة الأربعة على قوس المحكمة في صيدا عام 1999، كردّ على إعدام أربعة من «عصبة الأنصار» المتطرفة والذين نفّذوا جريمة اغتيال رئيس «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» (الأحباش) الشيخ نزار الحلبي عام 1994. إذ أن التهديدات التي توجّه إلى القضاة تدفعهم إلى التنحي عن ملفات يدرسونها أو يؤخرون إصدار الأحكام، وهذا ما جرى التنبه له، وبدأ العمل على تعزيز دور القضاء وحمايته، كخطوة ضرورية لاستتباب الأمن في لبنان والحد من الجريمة بكل أنواعها.
لقد حصلت آخر عملية تنفيذ عقوبة الإعدام قبل 13 عاماً، ولا بدّ من العودة إليها، يقول رئيس الجمهورية، لأن العدالة في الأرض يجب أن تتلازم مع عدالة السماء، ولا يمكن أن يتحوّل لبنان إلى مسرح للجريمة، ويفلت المجرمون من العقاب، ولابدّ من ورشة متكاملة للحد من الجريمة إذا كان من المتعذر القضاء عليها، وفي يد السلطة اللبنانية، لاسيما منها الأمنية والعسكرية والقضائية من القوانين والإمكانيات القادرة على إيقاف انتشار الجريمة، فيما يؤكد آخرون أن السلاح منتشر في كل مكان ومع أي كان، يبقى عائقاً أمام محاولات استعادة الأمن وطمأنينة الشعب، وقد دعا وزير الدفاع إلى تنظيم حمل السلاح، بأن لا يكون ترخيصه عشوائياً وعلماِ بأن السياسيين هم أبرز مَن يطلبون رخص السلاح لأنصارهم، كرشوة انتخابية.
Leave a Reply