لم ينتظر اللبنانيون المنجمين ولا الفلكيين، وهم باتوا أسراهم، ويتناقلون ماذا قال هذا المنجم أو تلك التي تسمي نفسها شاهدة على التاريخ عن أحداث ستحصل، وهذا ما يكشف بأنهم معلّقون على حبال «كذبوا ولو صدقوا».
فلبنان عام 2014، لن يكون بأفضل حال عن العام المنصرم المحمّل بمئات القتلى وآلاف الجرحى وعشرات المعاقين من العمليات الإنتحارية التفجيرية التي قتلت البشر ودمّرت الحجر، وزرعت الرعب، ورسّخت الحقد والكراهية، وعزّزت الإنقسام الداخلي بعضه على أساس سياسي وأكثره على التحريض الطائفي والمذهبي وانسد افق الحل السياسي مع انكفاء الوسطاء الخارجيين وتعثر المبادرات الداخلية
وافتتح مطلع العام الجديد بتفجيرفي حارة حريك هو الثالث في الضاحية الجنوبية منذ ستة أشهر وقد عرف انتحاري بعد ساعات قليلة وهو من منطقة عكار والذي جندته الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) التي اعلنت عن وجودها في لبنان لاول مرة ونقلت الصراع اليه وقد ترافق ذلك مع اعتقال أمير تنظيم كتائب عبدالله عزام الذي اعترف بمسوؤليته عن تفجير السفارة الايرانية الى جانب اعمال ارهابية واجرامية وقد توفي في المستشفى العسكري الذي نقلته اليه مخابرات الجيش بعد اعتقاله في عملية أمنية ناجحة ساهمت المخابرات الاميركية في تزويدها بالمعلومات عنه، واعتبر الماجد صيداً ثميناً وهو المطلوب إميركيا وإيرانيا بعد أن كان العام 2013 قد طوى أيامه على وقع عملية اغتيال وزير المال السابق والمستشار السياسي والدبلوماسي للرئيس سعد الحريري والقيادي البارز في «تيار المستقبل» الدكتور محمد شطح، وتمّ ربط الجريمة مع الإستحقاق القضائي للمحكمة الدولية التي ستبدأ عملها في محاكمة المتهمين الخمسة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهم قياديون ومسؤولون في «حزب الله» الذي ردّ على اتهامات المحكمة بأنها مسيّسة وتستخدم لأهداف سياسية من قبل أطراف خارجية أولها العدو الإسرائيلي والولايات المتحدة للنيل منه كفصيل مقاوم بعد الهزيمة التي كبدها للعدو الإسرائيلي في تحرير الجنوب عام 2000، ثمّ في صد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، ولإغراق المقاومة في أتون فتنة مذهبية، وإن اغتيال شطح كما في عمليات اغتيال أخرى كانت تحصل عند كل مرحلة ما تتعلّق بالمحكمة الدولية، وفق ما يؤكّد مسؤولون في «حزب الله»، هذا ما حصل عند اغتيال جبران تويني في 12 كانون الأول 2005، وكان البحث حينها حول إنشاء المحكمة من قبل مجلس الأمن الدولي والبروتوكول الذي سيوقعه لبنان مع الأمم المتحدة، والنقاش كان يجري حول ما سيتضمّنه، فجاء اغتيال تويني ليقفز فوق هذا النقاش وتوجيه الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة رسالة الى الأمم المتحدة تطلب فيها عرض إنشاء المحكمة على مجلس الأمن الدولي فأصدر قراره 1557 دون أن تمر بالمؤسسات الدستورية اللبنانية كما ينص الدستور في عقد المعاهدات والإتفاقيات، فربط فريق «8 آذار» آنذاك بين الجريمة وإنشاء المحكمة، وهو يتكرّر الآن مع اغتيال شطح الذي تمّ استغلال الجريمة من قبل قوى «14 آذار»، وإصدار الاتهامات السياسية مباشرة كما يحصل مع كل عملية اغتيال وقعت منذ العام 2005 من قبل هذه القوى بتحميل المسؤولية لـ«حزب الله» وقبله للنظام الأمني اللبناني-السوري المشترك في أيام الوجود السوري في لبنان، ليتبيّن فيما بعد أن التحقيق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان مركباً ومفبركاً من شهود زور الى محققين دوليين مرتشين كما في حالة ديتليف ميليس، وفق ما كشفته التقارير الأمنية والقضائية والإعلامية، وإطلاق سراح أربعة ضباط من قبل المحكمة الدولية وهم: جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان، ليتبيّن أنه بعد أربع سنوات من توقيفهم في السجن كانوا أبرياء، وقد سجنوا لأسباب سياسية ولإجتثاث نظام أمني ارتبط بالأمن السوري في لبنان.
فبدء أعمال المحكمة الدولية في 15 أو 16 كانون الثاني من الشهر الجاري، هو استحقاق تتوقف عليه مسائل تتعلّق بنتائج ما ستنتهي إليه جلسات المحاكمة للمتهمين غيابياً والذين لم يتم القبض عليهم كما طلبت المحكمة من السلطات اللبنانية التي ردّت بأنه تعذّر عليها معرفة أماكن وجودهم، إذ أعلن «حزب الله» على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله أنه لن يتم تسليمهم، لأن لا ثقة بالمحكمة الدولية، وهي إسرائيلية المنشأ والأهداف، في حين يردّ عليه «تيار المستقبل» بأن العدالة ستطال هذا الحزب الذي وُجّهت إليه تهمة اغتيال شطح كما ورد على لسان سعد الحريري وفؤاد السنيورة وكل قادة «14 آذار»، حيث تمّ حقن الشارع الموالي لهذه القوى التي رفضت المشاركة مع «حزب الله» في حكومة واحدة تحت أي مسمى، وقطعت طرق التلاقي معه، لا بل أكّدت على ضرورة عزله وإقصائه، لا بل ذهب السنيورة الى القول إن القاتل الى زوال، وهو ما عقّد الوضع الداخلي اللبناني الذي يمر بأشد المراحل خطورة كما أكّد الرئيس نبيه برّي القلق على الاستقرار الأمني والسلم الأهلي، وهو ما يوافقه عليه أيضاً النائب وليد جنبلاط الذي يحذّر من إنزلاق لبنان الى الفتنة السّنّيّة-الشيعية، إذ يضع مقتل شطح في هذا الإطار، ويرفض السير بحكومة لون واحد، دعا إليه فريق «14 آذار» على لسان الحريري، وهي حكومة يجري الضغط على رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لتوقيع مراسيمها بعد أن يقدّمها له الرئيس المكلّف بتشكيلها تمام سلام الذي يتريّث هو الآخر في اللجوء الى مثل هذا الخيار الذي سيكون مكلفاً للبنان ومدمراً له ويدخله في حرب أهلية، يحاول أقطاب في «14 آذار» وعلى رأسهم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع التخفيف من تهويل «حزب الله» والتأكيد على أنه أضعف من أن يقوم بعملية عسكرية وأمنية كما حصل في 7 أيار 2008، أو النزول بـ«القمصان السود» لإرهاب النائب وليد جنبلاط وعدم تسمية سعد الحريري بعد استقالة حكومته في كانون الثاني 2011.
فإستحقاق تشكيل حكومة في العام 2014، بات أكثر تعقيداً بعد إغتيال شطح، ومع الشروط الجديدة التي وضعها فريق «14 آذار»، وهي تشكيل حكومة منه فقط، أو مع حياديين، على أن تكون الحقائب الأمنية الداخلية والدفاع بعهدة «تيار المستقبل» ليوقف أعمال القتل ضد فريقه كما يقول مسؤولوه، وهي ذريعة ليست مقنعة، لأنه كانت هذه الحقائب معه وله أكثرية في حكومة الرئيس السنيورة عام 2005، ولم تتوقف عمليات الإغتيال والتفجير، وبعضها تمّ كشفه وله ارتباط بتنظيم «فتح الإسلام»، كما بجماعات إرهابية وإسلامية أصولية.
وتشكيل الحكومة لم يعد ينتظر الكثير من الوقت بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على تكليف الرئيس سلام المفروض عليه عدم الإعتذار إذا لم يشكّل حكومة لا تقبل بها «14 آذار»، كما أن رئيس الجمهورية أعلن صراحة أنه أعطى فترة سماح للقوى السياسية كي تتفق على صيغة الحكومة لكنها لم تفعل، وهو يستمد صلاحياته من الدستور وليس من الأحزاب أو السياسيين، وهو مضطر لأن يتفق مع الرئيس المكلّف على حكومة تملأ الفراغ فيما لو حصل في رئاسة الجمهورية التي هي على موعد مع إنتخاباتها ما بين 25 آذار و25 أيار، ولن يسلّم سلطاته الى حكومة مستقيلة وتصرف الأعمال، وقد أقلق في موقفه هذا فريق «8 آذار» الذي ردّ عليه أنه لن يسمح لحكومة أمر واقع أن تصل الى مجلس النواب وتنال الثقة، كما لن يتم تسليم الوزارات، وهذا ما دفع بالنائب جنبلاط الذي يخشى على الإستقرار ويخاف من الفتنة النائمة، إلى أن يرفض حكومة لا تكون ممثلة للجميع، حيث ببقاء لبنان دون حكومة سيوقعه بأزمة، وإذا شكّلت حكومة دون توافق داخلي، فستكون الأزمة أخطر بكثير وسينشب عنها إندلاع معارك داخلية، بنزول كل طرف الى الشارع في مناطقه، وخطوط التماس قائمة وهذا ما دفع جنبلا ط الى طرح صيغة جديدة تتضمن «وزيرين ملكين» لكنها رفضت من «14 آذار».
فبدء أعمال المحكمة الدولية ستكون له إنعكاسات سلبية على الداخل اللبناني، لأن كل طرف ينظر إليها من منظار مختلف عن الآخر، فأولياء الدم يريدونها للحقيقة وفق ما بُني من إتهامات لا يثق بها الطرف المتهم والمصنّف قاتلاً، وبالتالي فإن الطرفين هما في موقعي الصدام.
والحكومة التي تبدو معقدة التأليف، وهي مادة للصراع على السلطة والقرار، وهي وضعت كاستحقاق مؤجل الى ما بعد حصول إنتخابات رئاسة الجمهورية التي لا تبدو أنها واقعة في موعدها، لأن إنعقاد جلساتها دون التوافق على إسم مرشح لرئاسة الجمهورية دونه صعوبات، مع إستحالة أي طرف سياسي في «8» و«14 آذار»، تأمين النصاب القانوني لأي مرشح منهما، وهما محكومان بالإتفاق على مرشح توافقي، وهذا أيضاً ليس بالعمل اليسير، لأن صناعة رئيس الجمهورية لم تكن لبنانية، في تاريخ لبنان الحديث منذ الإستقلال في العام 1943 وإنتخاب أول رئيس للجمهورية بشارة الخوري حتى الرئيس الحالي ميشال سليمان الذي يؤكّد أنه سيغادر في 26 أيار المقبل الى منزله في عمشيت في رسالة واضحة على أنه يرفض التمديد الذي أصابت لوثته أغلبية رؤساء الجمهورية، وهو صعب حصوله للرئيس سليمان رغم رفضه له، بسبب عدم وجود إجماع نيابي حوله، كما أن أصحاب القرار الإقليمي والدولي لم يتفقوا عليه، عدا عن أنه لم تظهر بعد إشارات خارجية عن الرئيس المرتقب حتى الآن، ولم يظهر من الأسماء المتداولة أي توافق حول إسم من هؤلاء وهم قائد الجيش العماد جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكل منهما بحاجة الى تعديل الدستور غير المألوف دولياً عملاً بالقرار 1559، أو من المرشحين غير الموظفين وهم: ميشال عون وسليمان فرنجية (8 آذار)، والرئيس امين الجميل وسمير جعجع وبطرس حرب وروبير غانم من «14 آذار» أو جان عبيد وزياد بارود (محايدان).
فلبنان 2014 هو عام الإستحقاقات المفصلية والمصيرية، تبدأ المحكمة الدولية في منتصف كانون الثاني، الى مؤتمر «جنيف 2» السوري في نهايته، حيث يتمّ التعويل عليه لنقل سوريا من الصدام العسكري الى الحل السياسي الذي ليس سهلاً الوصول إليه، اذ على ضوء نتائج ما سيسفر عنه المؤتمر سيتقرّر مصير الأزمة السورية التي ستزيد من ثقلها على لبنان الذي تضغط عليه إقتصادياً وأمنياً وإجتماعياً، والأكثر من ذلك سياسياً وتتسبب بإنقسامات حادة بين اللبنانيين، بدأت تعطّل مؤسساتهم الدستورية، وتربك إقتصادهم وتفجّر أمنهم.
وإستحقاق الحكومة بات مرتبطاً بإستحقاق رئاسة الجمهورية، وقد تمّ الحديث عن تسوية، بأن يكون رئيس الجمهورية قريباً من «8 آذار»، على أن يعود سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، حيث ذكر أن هذا الحل للأزمة السياسية والدستورية وما يرافقها من هزات أمنية، طرحت على المسؤولين في السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ليتم تبنّيها، لكن الأحداث في سوريا تتقدّم على الأزمة في لبنان، المرتبطة بنتائجها.
ويمكن وضع عنوان لعام 2014 لبنانياً، أنه عام الإستحقاقات، التي سيتقرّر على نتائجها مصير لبنان وجوداً وكياناً ونظاماً سياسياً.
Leave a Reply