أما وقد آل اجتماع المجلس التربوي لمدارس ديربورن إلى النتيجة المعروفة، وتأجل البت في تعيين مرشح يملأ الفراغ الناجم عن استقالة رئيسته السابقة مريم سعد بزي، إلى الأسبوع المقبل، وتبين بما لا يدع مجالاً للشك انه لم تكن هناك مؤامرة كونية وصفقات حسمت النتيجة قبل «مسرحية» المقابلات والمداولات والتصويت، صار من الأسهل الحديث عن اللغط والجو المتوتر اللذين واكبا هذه القضية ولا يزالان.
من السهل هذه الأيام إلقاء اللوم على الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي على الموجة العارمة من المواقف والآراء والتحليلات والاتهامات والتشنيعات، كذلك يمكن الركون إلى المقولة المعتادة عن الحق في التعبير عن الرأي والمشاركة في النقاش العام وفي قضية عامة. لكن ما حصل يأتي في سياق مختلف وموصوف يشهده المجتمع العربي الأميركي مؤخراً خصوصاً في مركز الثقل الديموغرافي الرئيسي في ديربورن وضواحي مدينة ديترويت، وهو للأسف سياق لا يمت إلى تفعيل المشاركة العربية الأميركية في القضايا الحيوية.
وحتى لا تتسرب القضية عبر شقوق التشخيص والسجال لا بد من إعادة التذكير بالوقائع. أدى تعيين رئيسة المجلس التربوي لمدارس ديربورن مريم سعد بزي في منصب قضائي، وهذا أمر في حد ذاته إيجابي وجيد للعرب الأميركيين، إلى شغور مقعد في المجلس المؤلف من سبعة أعضاء. أعلن المجلس وفق لوائحه الداخلية فتح باب الترشيح لمن يرغب وفق عملية شفافة ونظامية، يقوم خلالها أعضاء المجلس العاملون بإجراء مقابلات معلنة مع المرشحين للتصويت على تعيين واحد من المتقدمين لملء المقعد الشاغر. بلغ عدد المرشحين المتقدمين ستة بينهم أربعة عرب أميركيين.
قبل بدء المقابلات، وحتى قبل الإعلان عن مواعيد الترشيح، انطلقت أصوات كثيرة معترضة ومشككة حسمت النتيجة سلفاً، ولم يتوانَ البعض ممن يفترض أنهم من النخب السياسية أو النشطاء أو المعنيين عن إشاعة سيناريوهات مفصلة عن كيفية حصول المؤامرة خلف الستارة لإيصال مرشحة محددة (سيليا ناصر) لشغل المقعد لمدة سنة ونيف، لحين حصول انتخابات المجلس المقبلة خريف العام ٢٠١٨. السند الوحيد لهذه الرواية هو أن السيدة ناصر عضو في لجنة العمل السياسي العربي الأميركي (AAPAC) المؤسسة الناشطة سياسياً وانتخابياً منذ سنوات في ميشيغن.
تقتضي الأمانة المهنية هنا أن أؤكد هنا، أني ولأسباب مهنية وبنيوية وسياسية وشيء من العوامل الشخصية، لم أسع إلى عضوية (أيباك)، ولا شاركت في أي نشاطات لها سوى كصحفي أقوم بعملي، وعلى الرغم من معرفتي الشخصية بالعديد من مؤسسيها ومسؤوليها وصداقتي لبعضهم، لم أكن يوماً ملتزماً بترشيحاتها أو تزكياتها. إلا أن ما شهدناه في الأسابيع القليلة الماضية يطرح سؤالاً مهماً، خصوصاً على منتقديها، الذين سارعوا إلى اتهامها وإدانتها بصفقات واتفاقات سرية.
السؤال هو: إذا كانت «أيباك» التي على ما أذكر حققت في مجلس التربية أول انجاز انتخابي لها من خلال دعم وانجاح الحملة الانتخابية لعضو مجلس التربية السابقة ايمي بلاكبورن، «أيباك» التي تعرف نفسها من اسمها بأنها مؤسسة تعنى بالسياسة والانتخابات ولها حضور ملحوظ في ديربورن وجوارها، لا تهتم بموضوع من هذا النوع، فما هو المطلوب منها؟ اذا كانت رئيسة المجلس المستقيلة مريم بزي عضواً فيها وسبق لها أن تولت رئاستها، وإذا كانت عضو المجلس فدوى علوية حمود أيضاً عضواً فيها، فماذا ينبغي على «أيباك» أن تفعل؟ هذا وفي حدود علمي أن «أيباك» لم ترشح احداً ولم تزكّي أحداً ولم تقم بأي نشاط لصالح أحد.
لبننة السياسة المحلية
أقل ما يقال في الجو العربي الأميركي السائد راهناً، خصوصاً في ديربورن وجارتها ديربورن هايتس، أنه جو فضائحي بامتياز. جو يقوم على اللغط والخلط والدس والنم في مسائل انتخابية وسياسية وعامة ينبغي التعامل معها بإحساس أكبر بالمسؤولية. بشيء من التبسيط ما يشهده المجتمع العربي الأميركي أقرب ما يكون إلى عملية لبننة في التعاطي مع الشأن العام. اللبننة هنا تعني تعميم الفوضى واللغط والشائعات وتجهيل المسؤولية من خلال كيل الاتهامات للكل عن كل شيء.
كل مؤشرات السلوك الراهنة تتجه إلى لبنان، من شيوخ يخترعون لأنفسهم ألقاباً يحاولون من خلالها اختلاق مسافة تبجيلية مع الناس الذين بنوا لهم المؤسسات التي يديرونها من حر مالهم وتعبهم وجهدهم، إلى مارقين يستسهلون الشأن العام ويعتقدون أن «فرو» الخدمة العامة مجرد «حياكة» شهرة، إلى قابعين في أوهام قديمة تجبل العائلية بالمناطقية بالزبائنية، على الطريقة اللبنانية، إلى حديثي نعمة يصدقون ما يسمعونه من خلانهم ومحتاجيهم أو طالبي التبرعات منهم، وصولاً إلى أصحاب الثارات الدائمة أو العائلية أو الجهوية أو المستجدة الذين لم يتوانوا عن تأليب المواجع القُطرية والتحريض المكشوف بين مكونات الجالية على أساس وطن المنشأ خصوصاً بين اليمنيين واللبنانيين.
في موقع اليكتروني واحد متاح للجميع، هناك ما يكفي من الاتهامات والتلفيقات لتأليف مجلدات. قصص واخبار، واستعراض عضلات بالمعنى الحرفي لكمال الأجسام، وروايات مختلقة تراوحت بين التأكيد على وجود اتفاقات مسبقة حسمت المعركة، وبين الخلط بين التركيز على رئاسة المجلس التربوي (القائم على الترتيب الأبجدي) وبين المقعد الشاغر، وبين دعوة البعض، بعد عدم التمكن من ترك أثر في الموضوع، إلى الكف عن الاهتمام بقضية تافهة مثل المجلس التربوي والتركيز على موضوع أكثر أهمية وهو كيفية التأكد من سلامة نوايا الشباب العرب طالبي الزواج من بنات الجالية ومعرفة ما اذا كانوا فعلاً يريدون الزواج أو فقط الحصول على الجنسية!
المأساة هنا تتجلي في حقيقة أن الحقائق الطائفية والإقليمية والمناطقية في لبنان واتكال القرار فيه إلى الخارج اولاً تجعل من كل المماحكات والمقولات واللّت في السياسة لا يتجاوز حد الثرثرة الفارغة، فحتى في الانتخابات النادرة الحصول تكون الرشاوى المالية علنية وتكون المحادل مستنفرة وتكون الماكينات الانتخابية مجرد أدوات صرف نفوذ، ولا يعود لصوت المواطن كناخب أي مفعول ولا يمكن لبرنامج انتخابي أن يقدم أو يؤخر، أما هنا في مجتمعنا الجديد فرأسمال المواطن هو صوته في الاقتراع حيث القاعدة هي سيادة القانون و«شخص واحد صوت واحد». هذا يعني أنه في ظل إستمرار التشكيك واللغط سنصل إلى نتيجة سلبية مزدوجة. الوجه الأول لذلك هو عزوف بعض الناخبين العرب الأميركيين عن الاقتراع، في انتخابات يحسم معظمها بعشرات الأصوات فقط. الوجه الثاني والأخطر هو عزوف الشباب العربي الأميركي عن المشاركة السياسة والترشح والتفاعل، وترك الباب مفتوحاً أمام ولاءات وانتماءات عشائرية وعائلية وطائفية تستقبلها المساجد والكنائس عن طيب خاطر.
Leave a Reply