تُعرف مدينة ديربورن بأنها «عاصمة العرب الأميركيين» في الولايات المتحدة، وبأنها تضم أكبر تجمع عربي خارج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولكنها أيضاً أكثر تجمع عربي تنوعاً وثراء، حيث تضم المدينة وضواحيها مختلف الجنسيات العربية من بلاد المغرب إلى الجزيرة مرورا بمصر وبلاد الشام والعراق واليمن، حتى أنك قد تجد عربياً من جيبوتي جاء ليعيش أو يعمل في ديربورن التي شكل العرب الأولون فيها، من اللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين خاصة، حضناً دافئاً وقبلة لجميع العرب الذين يحنون إلى الوطن الأم.
وعندما كانت المشاعر القومية العربية في أوجها، كان اللبنانيون والفلسطينيون واليمنيون في المدينة سنداً لبعضهم البعض، فلا أحد يسأل عن طائفة هذا أو انتماء ذاك، كان الطلاب متضامنين في الجامعات. كانوا فقط عرباً، رغم اعتزازهم العميق بأوطانهم وثقافتهم وخلفياتهم المتنوعة.
ثم دارت الأيام على دنيا العرب، واندلعت الحروب تلو الحروب، حتى ازداد أعداد العرب في المدينة قادمين من جميع الأقطار، لاسيما العراق المنتصر اليوم، حتى ظننا بأننا سنزداد قوة واحتراماً وثباتاً في وطننا الجديد، ولكننا –للأسف– على العكس ازددنا تفرقاً وتشرذماً.
لقد لعبت الجاليتان اليمنية واللبنانية –والعراقية لاحقاً– دوراً أساسياً في تشكيل هوية المدينة المرحبة بالعرب عبر تحقيق الكثير من المنجزات في الميادين الاقتصادية والتعليمية وحتى السياسية، دون إنكار دور بقية العرب الأميركيين من مختلف البلدان، وهي إنجازات لا يهددها شيءٌ بقدر ما تمثله مظاهر الانقسام والتحزّب الفئوي المتزايدة في أوساط الجالية العربية عموماً، ليس فقط على خلفية الانتماءات الدينية أو المذهبية، بل أيضاً على خلفية الانتماء المناطقي والعائلي والقبلي، مما بات يشكل مصدر قلق وسخرية في آن. لأنه على أي عاقل أن يدرك أن التلاعب بوحدة الجاليات العربية من أجل تحقيق مكاسب آنية، سيضع مستقبلنا جميعاً في مهب الريح.
في العدد الماضي، نشرت «صدى الوطن» تقريراً بعنوان «اليمنيون الأميركيون يشكون التهميش والتمييز من قبل أشقائهم اللبنانيين»، تعرضت على أثره الصحيفة لهجوم جديد، حيث أعرب البعض من أبناء الجالية عن استيائهم مما ورد في ثنايا التقرير الذي كتب بموضوعية بحتة، وبما تقتضيه مبادئ الصحافة وطبيعة مهامها التي تلتزم بالحديث عما يعني الناس وما يقلقهم ويؤثر في مصالحهم وحياتهم اليومية.
البعض من المعترضين –على كل ما تفعله «صدى الوطن» وفق ذهنية «من ليس معنا فهو ضدنا»– وصف التقرير على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه «دعوة» إلى تقسيم الجالية العربية وتسعير خلافاتها وتعميق تمزقها. وفضلاً عن أن تلك المزاعم باطلة جملة وتفصيلاً، إلا أنه يبدو واضحاً أن هؤلاء يتعامون عن حقيقة أن «صدى الوطن» تحمل شعار جريدة العرب في أميركا الشمالية منذ تأسيسها في العام ١٩٨٤، حين كان عرب ديربورن، لبنانيين ويمنيين، أقلية صغيرة تتركز في حي «ديكس» (ساوث أند).
وللصحافة الحق المطلق في الكتابة عن مختلف القضايا والأحداث والأخبار التي تتصل بحياة الناس الذين تصدر من أجلهم، و«صدى الوطن» كونها الصحيفة الأقدم والأعرق في ديربورن، عليها واجب التطرق للمشكلات الاجتماعية في المدينة، كما أنه من حقها المهني لها الحق في أن يكون لها خطها السياسي والاجتماعي والثقافي، أسوة بباقي الوسائل الإعلامية الأخرى!
وجد آخرون –بينهم لبنانيون أباً عن جد– في التقرير فرصة لتأجيج الخلافات، فأمعنوا في كيل الاتهامات للجالية اللبنانية ووصفوا أبناءَها بالعنصرية والاستعلاء والتآمر على بقية العرب للاستئثار بمفاصل المدينة وشغل المناصب الحساسة فيها، ليكون لهم الأمر والنهي فيها.. وغير ذلك من الكلام الملقى على عواهنه.
ما من شك في أن الجالية اللبنانية في ديربورن هي الأكثر نجاحاً في الحياة العامة بالمدينة، ولكن هذا النجاح لم يتحقق بسبب عقلية عنصرية أو تعاضد إثني أو التفاف مذهبي، يتعمد إقصاء العرب الآخرين، وإنما تعود أسبابه إلى عوامل موضوعية أهمها أسبقية اللبنانيين في التوطن بالولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر، إضافة إلى انفتاحهم على الثقافة الغربية، وميلهم إلى متابعة التعليم الأكاديمي والمشاركة في الحياة العامة، إضافة إلى أسباب أخرى لا مجال لسردها هنا.
والحقيقة أن اللبنانيين أصلاً غير موحدين، ليس فقط المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون في تجمعين شبه منفصلين، أو حتى السنة والشيعة، أو غير ذلك من الأمراض المعاصرة، بل أيضاً تشرذمهم المصالح وعقليات عائلية ومناطقية تكاد تستعصي على الفهم.
من الناحية التاريخية، فإن الوجود العربي في الولايات المتحدة بدأ مع المسيحيين اللبنانيين والسوريين الذين بدأوا بالتوافد إلى العالم الجديد في أواخر القرن الـ19 هرباً من الاضطهاد العثماني، وهؤلاء استقروا في مدينتي بروكلين وبوسطن، وبحلول عشرينات القرن الماضي كان 100 ألف مسيحي قد وصلوا إلى أميركا وتوزعوا في مختلف المدن الأميركية، والتي كانت مدينة ديترويت في مقدمتها.
وعندما بدأ المسلمون اللبنانيون بالهجرة إلى الولايات المتحدة خلال القرن العشرين لم يعتمدوا على إنجازات المسيحيين، بل كان عليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر، وكانت ديربورن إحدى ثمارهم مع أشقائهم اليمنيين والفلسطينيين.
في مقابلة مع «راديو ميشيغن» قال الباحث في «المتحف العربي الأميركي» ماثيو جابر ستيفلر «إن وجه ديربورن بدأ بالتغير مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975». وأضاف «منذ ذلك الوقت، بدأ الكثير من المسلمين اللبنانيين، من جنوب لبنان، يأتون إلى المدينة.. عائلات بأكملها، قرى بأكملها تقريباً بدأت بالتوافد إلى المدينة».
لهذا السبب التاريخي البحت، فإن مجتمع ديربورن يتكون بشكل أساسي من المسلمين اللبنانيين فيما المسيحيون اللبنانيون كانوا يعيشون في مدينة ديترويت حتى خمسينات القرن الماضي، قبل نزوحهم إلى الضواحي الشمالية في مقاطعتي أوكلاند وماكومب.
ولدى وصول أفواج الفارين من الحرب الأهلية اللبنانية، كانت ديربورن تضم جالية لبنانية صغيرة إلى جانب أشقائهم العرب من اليمنيين والفلسطينيين.
وكان للنمو المتسارع للجالية اللبنانية في ديربورن خلال السبعينات وأوائل الثمانينات أثر كبير على ازدياد الفرز المسيحي المسلم، وكذلك الذهنية العامة على مستوى التجارة أو التعاطي في الشأن العام، فكان معظم هؤلاء المهاجرين قد جاؤوا من القرى حاملين معهم ذهنيات عائلية وعشائرية ومناطقية ظلت في وطنهم الجديد، وهو ما يبدو واضحاً من خلال أسماء المؤسسات والنوادي والجمعيات التي أسسوها، حيث بالكاد تجد اليوم مؤسسة أو مؤسستين تحملان اسم لبنان، ومن جهة أخرى تجد أن اليمنيين راحوا يسمون أغلب مؤسساتهم الاجتماعية باسم اليمن!
ثم جاء «الربيع العربي» التي اتخذت لبوساً طائفياً ومذهبياً دامياً ليُدخل العرب نفقاً معتماً امتدت ظلمته إلى منطقة ديترويت، حيث تسللت أزمات العرب من خلف البحار إلى مجتمع الجالية، فغابت أبسط أنواع التضامن مع ضحايا البلدان العربية بسبب الاصطفافات السياسية، فيما كانت المدينة يوماً تنهض عن بكرة أبيها لنصرة اللبنانيين والفلسطينيين ضد الاحتلال الاسرائيلي.
الجاليات العربية –بمختلف أطيافها– بحاجة إلى وقفة تأمل لتحديد الاتجاه، ولذلك فإن اللقاء والحوار ومعرفة الهواجس أمر لا بد منه، كما تم في اللقاء الذي جمع ممثلي المنظمات العربية والقياديين في ديربورن مؤخراً للتوافق حول سبل تجاوز الحساسيات وتكثيف الجهود لتمتين العلاقات في الجالية استعداداً لما قد يحمله قادم الأيام، حيث المخاطر المحتملة لا تخطئها عين.
من البديهي القول إن في الوحدة قوة، ولا يختلف اثنان على أن الحل البسيط للحساسيات التي تم تأجيجها يكمن في تجاوز الصغائر وإدراك طبيعة المخاطر التي تحدق بالعرب الأميركيين في حال أصروا على التشتت والتمزق، والمسؤولية –في هذا السياق– تقع على عاتق الجميع، بمن فيهم هؤلاء الذين ينفخون في الرماد من وراء شاشات هواتفهم المحمولة تنفيساً عن أمراض شخصية ومصالح ضيقة.. والذين لا يسعنا في نهاية هذه الافتتاحية إلا تذكيرهم بالحديث الشريف «اللهم اغفر لقومي.. فإنهم لا يعلمون»!
Leave a Reply