عقوبات على ظريف! على مَن يعرض ترامب التفاوض؟
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
يبدو أن الطلقة الأخيرة التي كانت في جعبة الرئيس الأميركي لم تكن ذات قيمة. بل على العكس من ذلك. إنها خطوة فرض العقوبات على رأس الدبلوماسية الإيرانية، محمد جواد ظريف، الذي لفت أنظار العالم كله بابتسامته ومدرسته في الدبلوماسية خلال فترة المفاوضات الطويلة التي سبقت توقيع الاتفاق النووي.
أصداء خطوة فرض العقوبات الأميركية على ظريف ما تزال تتردد في المنطقة، وأقل ما تستدرجه من ردات فعل هو الاستهجان. فكيف تطلب واشنطن التفاوض مع طهران، وهي في الوقت عينه تمنع وزير خارجيتها –وهو الذي من المفترض أن يكون رئيس أي وفد للمفاوضات– من دخول أراضيها.
ظريف علّق على تلك العقوبات ساخراً: شكراً لأنكم تعتبرونني تهديداً كبيراً لأجندتكم. منطق ترفضه كل الأعراف والقوانين الدولية، لكن في النهاية نحن نتحدث هنا عن «أميركا» وعن ترامب تحديداً، وبالتالي عن انعدام عنصر المفاجأة إزاء القرارات التي تُتخذ.
يجمع المراقبون أن هناك تخبطاً داخل الإدارة الأميركية تجاه كل ما يتعلق بإيران من مواقف، والغاية الأساس للخروج من الاتفاق النووي قد يكون الهدف منها بالنسبة إلى ترامب، هو مجرد الرغبة في اتخاذ موقف مغاير لموقف أوباما وإدارته.
هذا ما يشير إليه البروفسور والخبير الاستراتيجي في الشؤون الدولية إدمون غريب، معتبراً أن الرجل لطالما مهّد للأمر خلال حملته الانتخابية. ولكنه يلفت أيضاً إلى الإشارات التي سبقت فرض العقوبات على ظريف كاستعداد إيران للتوقيع على البروتوكول الإضافي للاتفاق النووي مقابل رفع كامل للعقوبات، وهو ما نفته طهران لاحقاً وبشدة، وفيما بعد جرى الحديث عن إمكانية قبولها بطرح ملف صواريخها البالستية للنقاش، مقابل توقف واشنطن عن بيع الأسلحة المتطورة لدول المنطقة، إضافة إلى ما حُكي عن طلب ترامب إلى السناتور راند بول البدء بفتح قنوات للتفاوض مع طهران.
كان يمكن أن تتبع الأمور مساراً سلساً، لولا القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد حُكي عن رفض ظريف دعوة وجهها إليه البيت الأبيض لزيارة ترامب! وحُكي أيضاً أن الرئيس ترامب وقع مرة جديدة تحت تأثير وزير خارجيته مايك بومبيو، الذي هو من حرّضه على فرض العقوبات على ظريف، انتقاماً منه لجرأته على رفض الدعوة. يقول البروفسور غريب إن الرأي العام الأميركي غير غائب عما يحدث، وهو في غالبيته غير موافق على السلوك العدائي تجاه إيران، والذي قد يستدرج مواجهة هو في غنى عنها ما دامت مصالح بلاده الحيوية غير مهددة، وليس خافياً ما يرزح تحته الرئيس الأميركي من ضغوط داخلية لجهة قضية التدخل الروسي في الانتخابات الذي أفرز وصوله إلى البيت الأبيض كما يقول خصومه، فضلاً عن اتهامه بالضعف من قبل فريق الصقور يوم ألغى الضربة التي كان ينوي توجيهها لإيران يوم إسقاط الطائرة الأميركية التي اخترقت المجال الجوي لطهران، إضافة إلى المشاكل التجارية الناشئة مع الصين، وما استتبعته من مفاعيل على الاقتصاد الأميركي، كلها عوامل إذا لم يستطع تجاوزها ستوحي بضعف إدارته، وبالتالي هي تؤثر على فرصة نجاحه في بلوغ ولاية ثانية.
صولو إماراتي .. أم ديو مع واشنطن؟
في ما خصّ التحول الطارئ في سلوك بعض الدول الخليجية تجاه إيران، ولاسيما الإمارات، يشكك البروفسور غريب في إمكان قدرة أبو ظبي أو غيرها من الدول التي تدور في الفلك الأميركي على اتخاذ قرارات مماثلة بمعزل عن الوصي الأميركي، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يُقرأ سوى على أنه الأحرف الأولى من دعوة للتفاوض، ولكنه لا ينفي في الوقت عينه إمكان وجود رؤية إماراتية ارتأت تقديم مصلحة البلاد الحيوية على الاعتبارات الأخرى، لما تمثله إيران من ثقل تجاري واقتصادي بالنسبة إليها، من دون الإيغال في التقارب إلى حد التماهي مع طهران سياسياً، مع الإشارة هنا إلى الدور العُماني الذي لم ينقطع، وكذلك الكويت والعراق اللتين حاولتا في وقت سابق أداء دور ما، اجتماع هذه الدول حول أهمية موقع إيران في المنطقة، فضلاً عن رغبتها ورغبة طرفي الأزمة في تفادي أية مواجهة عسكرية لما لها من آثار مدمرة.
هذه المعطيات ربما تسهم وفق البروفسور غريب بفتح كوّة في جدار الأزمة، رغم التعقيدات الجمّة التي تطبع العلاقة بين البلدين اللدودين، فلا قنوات دبلوماسية بينهما ولو في حدها الأدنى، وقد أجهزت واشنطن على الشريان الرفيع «المايسترو ظريف» بفرض العقوبات عليه وهو رمز الدبلوماسية الإيرانية ووجهها والمعتدل، كما أن البعض في واشنطن اقترح تمديد العمل بالاتفاقية النووية من عام 2030 حتى عام 2050 لجهة إعطاء أدوات إضافية للمفتشين الدوليين في إطار ما يمكن أن يُدرج في خانة إجراءات بناء الثقة.
إيران والتعايش مع العقوبات
ثمة من يعتقد أن العقوبات بدأت تؤتي ثمارها، بحسب البروفسور غريب، فإنتاج النفط الإيراني انخفض على نحو كبير حتى وصل إلى 500 ألف برميل يومياً، على الرغم من قدرة إيران اللافتة على استيعاب جزء لا بأس به من هذه العقوبات، وهي الدولة التي تمرّست على ذلك منذ اليوم الأول لقيام ثورتها وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية فيها، وتقول إنها وصلت إلى مرحلة من الاكتفاء الذاتي في قطاعات الغذاء والدواء والطاقة بنسبة 97 بالمئة وهي القطاعات الأكثر حيوية وربما الأكثر إيلاماً لأي شعب إذا ما استُخدمت للضغط عليه ومُنع من الحصول عليها، فهي مقوّمات الحياة الأساسية، ما يتيح لها إمكانية التكيف مع تلك العقوبات.
تحالف فاشل قبل نشوئه
الهدف من التحشيد العسكري من خلال بناء تحالف مع بعض الدول المعنية بأمن الملاحة البحرية في مياه الخليج هو لمنع إيران من المزيد من التحركات، من قبيل استيلائها على الناقلة البريطانية «استينا أمبيرو» حتى ولو كان ذلك رداً على استيلاء بريطانيا ناقلة لها، يلفت البروفسور غريب إلى أن الغلبة هنا هي لمنطق القوة، فلم يعد خافياً على أحد أن السفينة البريطانية اخترقت المياه الدولية الإيرانية، فيما تذرّعت بريطانيا بأن الناقلة الإيرانية «غريس 1» التي احتُجزت في جبل طارق خرقت العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا، علماً بأن بريطانيا نفسها باتت فعلياً خارج الاتحاد الأوروبي، كما أن إيران غير معنية بالعقوبات على سوريا، مع النفي الإيراني بأن ناقلتها كانت متوجهة الى سوريا، لكن الرئيس الإيراني حسن روحاني ومنذ أيام حسم الأمر وقال بوضوح تام: الأمن مقابل الأمن والمضيق مقابل المضيق.
واشنطن تواصل مساعيها لحشد المزيد من الحلفاء وجلبهم إلى مياه الخليج بحجة حماية الملاحة البحرية، لكنها لا تلقى الترحيب الذي تطلبه: أستراليا، وعلى لسان وزيرة دفاعها، ليندا رينولدز، قالت إنها لن تتسرع في اتخاذ قرار، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، اكتفى بالتعبير عن قلقه إزاء الأنشطة المزعزعة للاستقرار في الخليج، أما الحكومة اليابانية فقد أكدت أن رئيسها شينزو آبي لم يناقش مع وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر مسألة التحالف البحري المقترح، فيما أعلن السفير الصيني في الإمارات أن بلاده تدرس مقترح أميركا بشأن ترتيبات لحماية السفن التجارية في الخليج.
وحدها بريطانيا كعادتها تحاول إثبات صدقية ولائها لواشنطن فتؤكد أنها ستشارك بفعالية في التحالف المنشود، وإن كانت قد أبدت رغبة أولية في العمل تحت مظلة أوروبية، ليرسو الأمر في أفضل الأحوال على حماية كل دولة لسفنها. أما بالنسبة إلى إسرائيل، فقد نقلت وسائل إعلام فيها عن وزراء في حكومة نتنياهو أن تل أبيب تقوم بدور نشط في التحالف الناشئ في الخليج.
الخشية الدائمة من قراءة خاطئة
يشير الخبير في الشؤون الدولية البروفسور غريب إلى أن أميركا تستدعي كل حلفائها لتثبت أنها لا تريد الحرب بقدر ما هي تريد منع إيران من العبث بأمن المضائق، وفي رأيه لا يختلف اثنان على اختلال موازين القوى بين الدولتين، طبعاً لصالح الولايات المتحدة، وفق غريب أيضاً، لكنه لا ينكر قدرة إيران على الرد الذي سيستتبع رداً قوياً بطبيعة الحال، ما يعني دماراً شاملاً للمنطقة، لا يُسأل بعده عن هوية المنتصر.
وعن المسار المتوقع الذي ستسلكه الأزمة يعتقد غريب أنه مرتبط بحجم التعقيدات والأحداث المتنقلة والمتفجرة هنا وهناك، وقدرة الطرفين على تجاوزها، ولا سيما إيران، التي تؤكد دائماً أنها متأهبة وفي حالة من الجاهزية التامة، ولكن لرد أي اعتداء عليها وفقط للدفاع عن نفسها. إنما الأمر المقلق بحسب غريب، هو حصول خطأ ما في قراءة الأزمة، أو بتعبير آخر، سوء تقييم، ولا سيما مع وجود فريق الصقور وقدرته الواضحة على التأثير في خيارات الرئيس ترامب، وفي ظل الخشية الدائمة من دخول بعض من لهم مصلحة في تفجير الوضع عسكرياً على الخط، مثل إسرائيل والسعودية المسكونتين بالهاجس الإيراني.
ماكرون والإصرار على تفعيل «إنستكس»
مصادر مطلعة كانت سرّبت منذ أيام خبراً حول دعوة وجهها الرئيس الفرنسي لنظيره الإيراني، لحضور قمة مجموعة السبع المزمع عقدها في فرنسا كضيف شرف مع إمكانية ترتيب لقاء على هامش القمة مع الرئيس ترامب، لكن روحاني رفض العرض لأن بلاده تربط أي نوع من التفاوض مهما كان محدوداً مع واشنطن بالرفع الكامل للعقوبات. ومن جملة ما طرحه ماكرون أيضاً على روحاني، مشروع لوضع 15 مليار يورو في آلية «إنستكس» كاعتماد تسهم فيه فرنسا بخمسة مليارات، وتسهم سائر الدول الأعضاء في الاتفاق النووي بالمبلغ المتبقي. لكن هذا كله عادت ونفته باريس.
رهانات إيران
إيران لا تنفك تؤكد أنها قادرة على عبور المرحلة الصعبة والمشاكل الحالية، وهي تراهن في ذلك على الخبرة التي اكتسبتها من تجاربها السابقة وعلى التفاف شعبها بكل أطيافه حول حكومته، إضافة إلى رهانها على عدم رغبة أي طرف في الانزلاق إلى المواجهة، وعلى الانقسام الحاصل داخل الإدارة الأميركية نفسها بين رافض للحرب ومؤيد لها، هي ترفع سقف التحدي أحياناً لتحاول من خلال إثبات جاهزيتها العالية منع الحرب بالنظر إلى ما يمكن أن تستخدمه من قدرات تدميرية تطال كل الدول المحيطة وكل المصالح الأميركية، فكما قال ونستون تشرشل يوماً إن نفوذ الدول يُقاس بمسافة مدافعها، وصواريخ إيران البالستية ذات المدى البعيد هي في جوهر الصراع.
رهان طهران يبدو واقعياً حتى اليوم. ولكن، بما أن السياسة هي فن استنزاف الخصم، وليس الاستنزاف هنا بالضرورة عسكرياً، بل يمكن أن يكون من النوع الذي تمارسه كل من إيران والولايات المتحدة من حرب اقتصادية ونفسية وضغوط متواصلة إحداهما على الأخرى. ولكن طبعاً إيران بمحاولة خنقها مع هذا الكم الهائل من العقوبات، تُحشر في الزاوية أكثر فأكثر ما قد يدفعها إلى محاكاة فعل الأسود إن جاعت.
Leave a Reply