منذ أيام قرأت قصة قصيرة لكنها كبيرة في مضمونها ومعناها الذي ينمّ عن الوفاء والإخلاص والرحمة التي قلّما نرى لها وجوداً في هذا الزمن (الأغبر). وإليكم قرائي الأعزاء ما ورد فيها لعلّ بعض الرجال يتعظون ويتعلمون منها الوفاء الذي اندثر من حياتهم أو رموا به جانباً بحيث لم يعد يعني لهم شيئاً.
تقول القصة: تزوّج رجل بامرأة جميلة جداً وأحبها حباً لا يوصف، وفيما بعد، أصيبت الزوجة بمرض جلدي خطير فتشوّهت بشرتها بشكل مخيف. عندها شعرت الزوجة الجميلة بأنها بدأت تفقد جمالها وأنوثتها شيئاً فشيئاً. في تلك الأثناء كان زوجها مسافراً وفي طريق عودته تعرّض لحادث سير مروّع لكنه خرج منه سالماً إلا من بعض الخدوش الطفيفة التي تركت آثارها على وجهه. وحينما دخل المنزل، شاهد زوجته وقد بانت التشوّهات على جلدها، فتظاهر على الفور بالعمى حيث أخبرها بأنه فقد بصره جراء حادث السير. وهكذا تواصلت مسيرة حياتهما الزوجية كما لو كانت في سابق عهدها، لا هي تعبأ بفقدان بصره ولا هو يعبأ بتشوّه بشرتها، محبين لبعضهما البعض. ويوماً بعد يوم بدأت الزوجة ازدياداً بالنضوب فيما هو يزداد ولعاً بها، إلى أن جاء يوم أجلها وفارقت الحياة، فحزن الزوج حزناً شديداً لفراق حبيبته وأظلمّت الدنيا أمامه، فاتخذ من ضريحها مقراً له لا يفارقه إلا ساعة النوم ليلاً.
أثار ذلك التصرف فضول أحد الجيران فناداه: يا فلان، كيف تمشي لوحدك وزوجتك الراحلة كانت هي من تقودك طيلة الفترة السابقة؟ فأجابه الزوج المفجوع: لم أكن أعمى، إنما تظاهرت بذلك حتى لا أجرح مشاعر زوجتي وهي في تلك الحالة المرضية، فقد كانت الزوجة والحبيبة ووقفت إلى جانبي وساعدتني على تنشئة الأبناء وتربيتهم كما تحملت ضيق حالي عندما كنت فقيراً، فهل يصحّ أن أتركها وأغدر بها بعدما أوسع الله عليّ الرزق، وهل كانت هي تتركني لو كنت أنا المريض بذلك المرض أو بأصعب منه؟ لحظتها طأطأ الجار رأسه خجلاً وانحنى لإخلاص ذلك الرجل.
وبعد انتهائي من قراءة تلك القصة سألت إحدى السيدات عن رأيها بمضمونها فابتسمت قائلة: هذا نموذج من الرجال النادرين في عصرنا، وكان من الممكن أن تحصل في الماضي مثل حالات الوفاء هذه، يوم كان الزوج يعود من العمل ويجتمع مع عائلته على صحن واحد وهو يرفع يده شكراً إلى المولى على نعمائه، يأوي إلى زوجته غبّ المساء، لا يعرف أحدهما غير بعضهما، على عكس اليوم إذ تطور الرجل مع التكنولوجيا وأصبح يبرمج مواعيده على إيقاع الكمبيوتر، يتعطر ويرتدي الثياب الأنيقة ويخرج إلى حيث يشاء وحين يأوي إلى فراش الزوجية يبقى بنفس الثياب التي يحرث بها الحديقة، ولست أدري حين منح لنفسه هذه الحرية المطلقة وهو ظالم لشريكة حياته كيف سيكون موقفه أمام الخالق العظيم وبماذا سيجيب عن بطولته في الظلم؟
للأسف فإن بعض الرجال يتفننون بتسويغ الآية الكريمة وفق أهوائهم، تلك التي تقول: (الرجال قوّامون على النساء)، فهل أن جميع الرجال يستحقون مثل هذه القيمومة غير آبهين بمشاعر الزوجة بحيث يلهثون وراء الأخريات اللواتي لا يعرفن إلا اللعب على الحبال الواهنة سعياً وراء تنظيف الجيوب وخراب البيوت العامرة، كم هو أمر يدعو للأسف والأسى حين نكتشف أن الغدر ونكران الجميل جزء من طباعهم.
وبعض من مثل أولئك الرجال يتركون زوجاتهم وهن بقمة الجمال والأخلاق العالية فيروحون يدوسون على مشاعرهن دون خوف من الله فيرخون العنان لغرائزهم التي لن تدوم إلى الأبد، لاسيما وأن الطامة الكبرى تكمن حينما يلهثون وراء من هن أصغر منهم سناً بكثير.
وعلى العكس من أمثال أولئك الرجال نجد الأمثولة في الرجال الذين يحترمون الزوجة ويمنحونها حق قدرها ويحافظون على الوفاء للعِشرة الزوجية إذ بذلك يحققون احترامهم لأنفسهم على رغم قلتهم.
كانت جدتي رحمها الله تقول إن الزوج حين يقرر القضاء على حياته فهو يسلك إما طريق المقامرين أو يتزوج على زوجته دون حق.
ونحن إذ ننظر إلى الحياة بمنظورها الزمني كم نفاجأ حين نجدها قصيرة قصر المسافة بينها وبين الموت مهما استطالت، فلماذا لا يحياها الانسان كما يجب بحيث تكون في حالة المحبة والتوازن الانساني والتفاهم المشترك ونبذ الشعور بالنقص، ليسعد هو ويسعد من حوله بالتالي، فالحياة لا تكتمل إلا بقوة الوفاء وتعزيز الإخلاص وهما جزء من مخافة الله عز وجل، أليس في ذلك الرجل الذي اصطنع العمى عبرة كي يحافظ على مشاعر زوجته، إنه حتى لو كانت قصته من نسج الخيال لكنها تشكل درساً بليغاً في الوفاء، أليس للوفاء بريق يسطع مثل بريق الذهب على الدوام؟
Leave a Reply