لم يعلن النائب سامي الجميل جديداً، عندما اعترف وذكّر بالعلاقة مع إسرائيل، لأن حزب الكتائب الذي أسسه جده بيار الجميل الأول، أقام هذه العلاقة منذ الخمسينات، وقد وردت في أكثر من تقرير إسرائيلي، ومذكرات لقادة صهاينة، وفي كتب كشفت عن هذه العلاقة القديمة، ولقد كشف موشي شاريت في كتابه عن علاقة إسرائيل كدولة بـ”الكتائب”، وأن الياس ريابي العضو في المكتب السياسي الكتائبي كان مكلفاً بها منذ مطلع الخمسينات لتصبح علانية في السبعينات والثمانينات.
فالجميل الإبن، الذي يحاول تقمص شخصية عمه بشير الجميل والسير على نهجه المتطرف، لم يخجل من العلاقة الكتائبية–الإسرائيلية، وبرّرها بالخطر الذي كان يتهدد حزب الكتائب وأتباعه، وتحدث عن المسيحيين باعتبار “الكتائب” تحمي وجودهم، وفشلت، فلجأت الى “الشيطان” كما قال الجميل لاستقدام السلاح والمال، للحفاظ على المدن والقرى المسيحية، التي كانت تتساقط أمام القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية، التي تحركت عسكرياً كرد فعل على المجازر وعمليات التهجير الذي كانت تقوم به مليشيا “الكتائب” مع حلفائها من “الوطنيين الأحرار” و”حراس الأرز” و”التنظيم” الذين رفعوا شعارات بقتل الفلسطينيين واجتثاثهم من “المناطق الشرقية”، مع حلفائهم من الأحزاب الوطنية والتقدمية، وبدأت عمليات خطف وقتل وتطهير للمناطق التي سيطرت عليها الأحزاب الإنعزالية عسكرياً، في الكرنتينا والمسلخ والنبعة وحارة الغوارنة والمخيمات الفلسطينية في ضبية وتل الزعتر وجسر الباشا، وكان مقابل كل حصار لمخيم وإسقاطه، تقوم ردة الفعل ضد مناطق أخرى مثل الدامور والقاع الخ…
فحزب الكتائب بدأ التدريب والتسليح كرد على ظهور الكفاح المسلح الفلسطيني بعد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران 1967، ولم يكن السلاح الفلسطيني الذي ظهر في لبنان كما في الأردن ودول أخرى، إلا لمواجهة إسرائيل بعد أن خسر الفلسطينيون كامل أرضهم، بعد احتلال الضفة الغربية وغزة، وهم لم يشهروا السلاح، ضد المسيحيين في لبنان، كما زعم حزب الكتائب، ولم يكن لمحاربة توطين الفلسطينيين، الذي هو مشروع إسرائيلي، يرفضه الفلسطينيون الذين يتمسكون بحق العودة كما أقرته لهم الأمم المتحدة في القرار 194، وبدلاً من أن يساند حزب الكتائب وحلفاؤه الفلسطينيين على حق العودة واسترداد أرضهم، رفعوا شعار محاربة التوطين، وشرّعوا لنفسهم حمل السلاح، لمقاتلة ليس إسرائيل صاحبة مشروع التوطين، بل قتل الذين يرفضون التوطين، ويريدون أرضهم، وبذلك ساندوا إسرائيل في مشروعها، لجهة فتح معارك عسكرية ضد مَن امتشق السلاح للعودة الى فلسطين عبر الحدود المجاورة لفلسطين، بعد أن سقطت كلها في يد إسرائيل، وانتظر الفلسطينيون الأنظمة العربية، لتعيد لهم ما احتل في العام 1948، فإذا بها تخسر ما تبقى من فلسطين في الضفة الغربية التي كانت تحت سلطة النظام الأردني، وغزة التي كانت تحت إدارة النظام المصري.
فالنغمة الكتائبية بأنها حملت السلاح لرفض التوطين لم تكن صحيحة، لأن ما حصل كان تدمير المخيمات الفلسطينية، وتنظيف المناطق ذات الكثافة المسيحية من الوجود الفلسطيني خدمة لمشروع تقسيم لبنان، وهو الشعار الذي رفعه بشير الجميل حول “الدويلة المسيحية” بين جسري كفرشيما والمدفون، وهو ما حصل، إذ تمّ طرد ليس الفلسطينيين من هذه المناطق، بل كل المسلمين والمسيحيين الوطنيين الرافضين للمشروع الإنعزالي والمتمسكين بوحدة لبنان.
فالتقسيم هو الذي قاتلت من أجله الكتائب، وهو مشروع استعماري وإسرائيلي، بدأ مع اتفاقية سايكس– بيكو عام 1916، ليفتح الباب أمام وعد بلفور البريطاني عام 1917، لقيام دولة إسرائيلية، وكان تفتيت المنطقة الى دويلات طائفية، تبريراً لإنشاء الكيان الصهيوني، وقد وُعد المسيحيون في لبنان، بدولة في جبل لبنان وتمّ تعديلها الى لبنان الكبير مع الجنرال غورو في العام 1920، وقد أعطيت لهم بعد ضم الأقضية الأربعة إليها، حيث ووجهت برفض من الوطنيين اللبنانيين والوحدويين، الذين تصدوا لمشاريع التقسيم الاستعمارية الفرنسية-البريطانية.
فحزب “الكتائب” استعاد مشروع التقسيم في مطلع السبعينات، وقد عبّر بشير الجميل عنه، عندما أكد على دفن الصيغة التي قام عليها لبنان في العام 1943، تحت ما سمي العيش المشترك الإسلامي-المسيحي، وقد سانده في مشروعه منظرون للتعددية الحضارية، كما أصدرت “الجبهة اللبنانية” وثائق تدعو الى قيام “لبنان المسيحي” وصدرت منشورات عن بعض الرهبانيات المارونية، تدعو الى “الدولة المسيحية” بسبب وجود حضارتين في لبنان، ولا يمكن للشعب اللبناني أن يتوحد.
هذا الفكر التقسيمي لإقامة “كانتون مسيحي” ما زال يراود سامي الجميل، الذي أسس تنظيماً سياسياً سماه “لبناننا”، يدعو الى نسف الصيغة الحالية للنظام القائم، وإقامة فدرالية بين “الكيانات اللبنانية” إذا كان البعض يريد التعايش بين الطوائف، ولكن بصيغة اللامركزية السياسية، وهو فكر انعزالي تقسيمي، لا ينسجم مع الدستور اللبناني، الذي يؤكد على أن لبنان وطن نهائي لجميع اللبنانيين بحدوده الحالية، وبرفض التقسيم والتوطين.
فاستحضار سامي الجميل للتاريخ، والاعتراف بالتعامل مع إسرائيل، لم يأت من فراغ، لأنه يؤمن بمشروع يقوم على “الفدرالية” وهو يلاقي الدولة العنصرية اليهودية الدينية، ويتوافق مع المشاريع الأميركية لتفتيت المنطقة كما حصل بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وأن مثل هذا المشروع لم يكن ليقوم أيام بشير الجميل لولا الدعم الإسرائيلي الذي أقرّ به سامي، ولم يقل إنه كان خياراً خاطئاً بل أكّد وبافتخار إذا ما تكررت ظروف التعامل مع إسرائيل، فقد يحصل، وهو ما توقف عنده المراقبون السياسيون وسألوا الجميل الإبن، هل يروج للتعامل مع إسرائيل، في الوقت الذي تعتقل الأجهزة الأمنية اللبنانية وتفكك شبكات العمالة لإسرائيل، وقد بلغ عدد العملاء حوالي 150 شخصاً، ورفعت شكوى بسببهم بحق إسرائيل الى الأمم المتحدة، في تخريب لبنان، من خلال عمليات اغتيال وتفجير وإعطاء معلومات للعدو التي استخدمها في حروبه ضد اللبنانيين وقتل منهم وجرح عشرات الآلاف، ودمّر مؤسسات لبنان ومرافقه ومرافئه ومدنه وقراه.
وانتظر اللبنانيون من سامي الجميل، أن يقدم قراءة سلبية عن تلك المرحلة من تاريخ لبنان الأسود، الذي لم يؤد التعامل مع الشيطان إسرائيل، الى حماية المسيحيين، بل تهجيرهم من لبنان وفق المشروع الإسرائيلي والأميركي، وهو ما حصل ليس للمسيحيين اللبنانيين بل للفلسطينيين منهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وأيضاً للعراقيين في ظل الاحتلال العراقي.
فالحماية للمسيحيين التي كانت المبرر للتعامل مع إسرائيل، كما قال سامي الجميل، يكشف عن أن حزب “الكتائب” يستند الى الدعم الخارجي وكان بذلك يلعب على عامل الخوف الطائفي لتبرير تعامله، حيث يقول خصومه، أن تأسيسه كان بقرار فرنسي، في مواجهة أحزاب قومية ووطنية، نشأت في تلك المرحلة لمقاومة الاستعمار الفرنسي الذي كان مسيطراً على لبنان وسوريا، وأن الاستقواء في الخارج، كان دائماً شعار الفريق الإنعزالي والكتائب في طليعته، وهو ما حصل في العام 1958 عندما تمّ استدعاء الأساطيل الأميركية لحماية الرئيس كميل شمعون الذي انخرط في المشروع الأميركي آنذاك والذي سمي بمشروع إيزنهاور للشرق الأوسط وقام من رحمه حلف بغداد، وهو يشبه مشروع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش “للشرق الأوسط الجديد”، الذي بدأ مع الحرب على العراق وأفغانستان، وانخرط فيه فريق ما يسمى “ثورة الأرز”، والذي أسقطته المقاومة الإسلامية والمعارضة الوطنية، والرفض السوري له، كما أسقط الرئيس جمال عبد الناصر الوحدوي، مشروع إيزنهاور، وكذلك أسقطت المقاومة الوطنية اللبنانية وجبهة الخلاص الوطني، بدعم من سوريا، اتفاق “17 أيار”، في عهد الرئيس أمين الجميل، الذي جاء هو وشقيقه بشير الى رئاسة الجمهورية في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
فأمام هذا السقوط للمشاريع الأميركية والإسرائيلية للبنان، والتي كان آخرها مشروع بوش فإن الجميل استعاد مرحلة الاستعانة بإسرائيل، وهذا أمر كان مستغرباً، بالرغم من أن الجميل حاول تفسير ما قاله، بإنه تحدث عن تلك المرحلة، لكن المآخذ عليه، أنه لم ينتقد هذه المرحلة، ولم يقل أنها كانت مأساوية على لبنان عموماً والمسيحيين خصوصاً، ولم يندم عليها، وهو ما أخرج المواقف المعارضة ضده، التي نبهته الى أنه لم يكن موفقاً في ما قاله، وعليه أن يتراجع عن تصريحه، ويقوم بنقد ذاتي، الذي سبقه إليه رفاق له في حزب الكتائب من أمثال المرحوم جورج سعادة وكريم بقرادوني وميشال سماحة وإيلي حبيقة وآخرين، الذين انقلبوا على المرحلة الإسرائيلية، واعتبروها صفحة سوداء ليس في تاريخ “الكتائب” و”القوات اللبنانية” التي وُلدت من رحمها، بل في تاريخ لبنان، وقاموا بقراءة لتلك المرحلة، وتوصلوا الى وضع حزب “الكتائب” خارج المشروع الإسرائيلي والأميركي، وتمّ تقديمه حزب حوار وانفتاح واعتراف بالآخر، وتأكيد على عروبة لبنان وعلاقاته المميزة مع سوريا، والتشبث باتفاق الطائف الذي أرسى وحدة لبنان ورفض التقسيم ومواجهة التوطين.
إلاّ أن هذا الخط الكتائبي المنفتح، أطيح به، مع تقدم المشروع الأميركي في المنطقة، واستعاد آل الجميل حزب العائلة فترأسه أمين، وتمّ تعيين سامي منسق اللجنة المركزية، وهو عاد الى الحزب بعد اغتيال شقيقه النائب بيار، وأبعد كل الخط الكتائبي المنفتح، وأمسك بالحزب وثبّت فيه التوجه الإنعزالي وأخذه الى الفكر الفدرالي الذي يؤمن به، ويعمل له، وهو بدأ يتناقض مع بعض أعضاء المكتب السياسي الذين يرفضون هذا النهج، الذي يسير به سامي ويقدم خطاباً متطرفاً لإعادة الإمساك بالشارع المسيحي وإعادة حزب الكتائب الى الموقع السابق، وهو الاستعانة بالخارج، الذي هو الشيطان ودائماً في ذهن اللبنانيين هي إسرائيل عند “الكتائب”، استناداً الى وقائع حصلت، برز فيها التحالف الكتائبي–الإسرائيلي، والذي تمثل في الاحتلال الإسرائيلي للبنان بمشاركة كتائبية علنية.
Leave a Reply