في عيده الـ٧٥
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
احتفل لبنان بالذكرى الـ75 لاستقلاله عن «الانتداب الفرنسي»، وخلال العقود السبعة الماضية، لم يتمكّن اللبنانيون من بناء ما أسمّوه «دولة الاستقلال»، التي أقاموها على نظام سياسي طائفي، اعتبروه مؤقتاً في المادة 95 من الدستور، حتى تقوم «صحوة وطنية» لإلغاء الطائفية، فظهرت بدلاً عنها العصبيات الطائفية والمذهبية التي غذاها وعمل عليها كل مَن وصل إلى السلطة اللبنانية، من ما سموا رجال الاستقلال، ومَن أتوا من بعدهم، من زعماء سياسيين ورؤساء أحزاب، هم في الواقع ممثلو طوائفهم ومذاهبهم، وما عملوا إلا لتكريس هيمنتهم على الدولة ومؤسساتها واقتسام مغانمها وجني الأرباح من صفقاتها… وتعميم الفساد.
صراع بريطاني–فرنسي
هذه الدولة التي نشأت على قاعدة طائفية وضمن حدود وهمية، حصل عليها اللبنانيون في صراع بريطاني–فرنسي على النفوذ، فكان لبنان من حصة الفرنسيين الذين تقاسموا المشرق العربي مع البريطانيين الذين قرروا إبان الحرب العالمية الثانية، أن يرسموا خارطة جديدة للمنطقة بعد اتفاقية سايكس–بيكو بينهما، فكان أن ربح البريطانيون معركتهم في لبنان، بدعم خيار استقلاله عن فرنسا من خلال تبنّي المندوب البريطاني في لبنان الجنرال إدوار سبيرز، مطالب الاستقلاليين عن فرنسا، فدعم الرئيس بشارة الخوري وحكومته برئاسة رياض الصلح، لتعديل الدستور، وإزالة كل ما يمت للانتداب الفرنسي بصلة، إذ كانت ردة الفعل الفرنسية من خلال المندوب الفرنسي الجنرال جان هللو باعتقال الخوري والصلح وعدد من الوزراء والنواب، وإعادة الرئيس إميل إدّه المتعاون مع الفرنسيين إلى رئاسة الجمهورية، لكن اللبنانيين رفضوا الانصياع للإجراءات الفرنسية، وفرضوا على حكومة «فرنسا الحرة»، بأن تعترف باستقلال لبنان في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، وتطلق سراح المعتقلين من رئيسي الجمهورية والحكومة ووزراء ونواب، فنال لبنان استقلاله بسقوط شهيد واحد له في عين عنوب هو سعيد فخرالدين، عندما حاولت قوات فرنسية في عدادها جنود سنغال، الوصول إلى حكومة الاستقلال في بشامون التي لجأ إليها وزير الدفاع آنذاك مجيد إرسلان مع زملاء له من الوزارة، وهكذا ولد استقلال لبنان، من رحم صراع بريطاني–فرنسي على أرضه، انتهى بجلاء القوات الفرنسية عنه في نهاية عام 1946.
أزمات وحروب متعاقبة
إلا أن الاستقلال الذي حصل عليه اللبنانيون، بالتحرّر من الإستعباد الخارجي، لم يتمكّنوا من أن يحوزوا على الاستقلال الداخلي، بتحررهم من الاستعباد الداخلي الذي وقعوا فيه من خلال الحكام الذين تعاقبوا على السلطة، إذ أقاموا مزرعة بدلاً من الدولة، وهذا باعتراف كل مَن تولّوا الحكم في لبنان، إذ أن كل رؤساء الجمهورية وكل الحكومات، إضافة إلى النواب والأحزاب، تعهدوا بإقامة دولة القانون والمؤسسات، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل، لا بل أن مؤسسات الدولة أصبحت تباعاً ملكاً لطوائف ومذاهب، إذ أن الوزارات التي تسمى سيادية باتت حكراً على أربع طوائف، وتحرم منها أخرى، وهذا ما ترسخ بعد اتفاق الطائف الذي دعا إلى إصلاح النظام السياسي بإلغاء الطائفية فيه، لكن هذا لم يحصل منذ أكثر من ربع قرن، إذ بقيت الإصلاحات التي وقّع عليها النواب في الطائف، للعبور إلى الدولة، حبراً على ورق، ودُفنت في الأدراج، ومنها اقتراح قانون بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية. وكذلك الأمر بالنسبة لقانون الانتخابات الذي وإن حصل تقدّم فيه لجهة اعتماد النسبية في الدورة الأخيرة، إلا أنه جاء مشوهاً ومفصلاً على قياس القوى الطائفية، التي تتمترس وراء شعار «حقوق الطائفة»، وهكذا بدأ التداول بـ«الرئيس المسيحي القوي»، بعد أن أخرج «التيار الوطني الحر» عبارة «استعادة حقوق المسيحيين»، وصياغة مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» للانتخابات النيابية الذي يسمح لكل طائفة بأن تنتخب ممثليها، وهو ما ورد في قانون الانتخاب الأخير، من خلال «الصوت التفضيلي».
هذا النظام السياسي الذي قام عليه لبنان بعد الاستقلال، كان منشأ ومحرك الأزمات والصراعات الأهلية فيه منذ إسقاط بشارة الخوري من رئاسة الجمهورية عام 1952 بسبب تزويره للانتخابات النيابية عام 1947، للتجديد له، وهو ما وقع فيه الرئيس كميل شمعون عام 1957، فثارت ثورة ضده في العام 1958 بعد أن ربط لبنان بتحالف مع «مشروع أيزنهاور» الأميركي، إلى الحرب الأهلية–الفتنة 1975–1990، التي شهدت سنواتها صراعات خارجية بين دول عدة على أرض لبنان، ومن ضمنها اجتياحان إسرائيليان في العامين 1978 و1982، ثم حروب لاحقة في العام 1993 و1996، إلى أن تحررّ الجنوب عام 2000، وصولاً إلى إخراج القوات السورية عام 2005، على وقع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي الذي طالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح «حزب الله»، والذي أدّى إلى حرب تموز 2006، والتي كانت أطراف لبنانية من قوى 14 آذار شريكة فيها، وما تبع من ذلك من «حرب أهلية باردة» بين «8» و«14 آذار»، كادت أن تتحول إلى فتنة مذهبية، وتحديداً سنّية–شيعية، إلى أن حصلت أحداث 7 أيار 2008، فقلبت موازين القوى الداخلية لصالح محور المقاومة، فنتج عن ذلك اتفاق الدوحة الذي صحح التوازن الداخلي وأرسى هدنة فرضتها المصالحة السعودية–السورية، التي سبقت الحرب الكونية التي شُنّت على سوريا في عام 2011 وأفضت إلى هزيمة المشروع الأميركي–الإسرائيلي–الخليجي، بدعم من روسيا، فدرأ «حزب الله» الجماعات الإرهابية التكفيرية عن لبنان، بتحرير جروده في السلسلة الشرقية من مجموعات «داعش» و«النصرة» بمؤازرة الجيش اللبناني ومساندة الجيش السوري.
هذا باختصار شديد مآل سبعة عقود من الأزمات المتعاقبة والمستمرة في لبنان!
أين دولة الاستقلال؟
في خضم هذه التطورات على مدى 75 سنة، مازال لبنان دون دولة، وهو يُصنّف في أدنى دول العالم الثالث، في مؤشرات الاقتصاد والشفافية والفساد وتطبيق القانون متخلفاً بذلك عن بلدان أفريقية فقيرة، حتى يكاد يصنّف كـ«دولة فاشلة».
المسؤولون أنفسهم يعترفون بذلك، ولكنهم لا يقدمون على الإصلاح المالي والاقتصادي الذي بات مطلباً دولياً ملحاً، في حين يدور السياسيون في حلقة مفرغة بعد انتخابات نيابية لم تحمل جديداً، سوى تأزيم الصراع الطائفي على المقاعد الوزارية، ومحاولة الاستئثار بها في تشكيل الحكومة التي تأخرت ستة أشهر، وقد يطول وقت الإعلان عنها إلى ما بعد رأس السنة، بسبب العقد الطائفية.
الاقتصاد اللبناني بدأ يتأثر بشدة من جراء الأزمة السياسية، والتحذير من ازدياد الفقر والوصول إلى المجاعة، هو لسان حال الكثيرين في لبنان، ومنهم وليد جنبلاط الذي يُكثر في «تغريداته» التي تشير إلى ارتفاع الدين العام، والى تراجع النمو، حتى أن وزير المال علي حسن خليل تحدث بأنه لا توجد «ليرة واحدة» في احتياط الموازنة، وهو كلام خطير، تجري محاولات للتخفيف منه من قبل حاكم مصرف لبنان أحياناً، ومن رئيس الجمهورية والمحيطين به أحياناً أخرى، حفاظاً على العهد، لكن الحقيقة أن اللبنانيين يشعرون في كل عيد استقلال، بأنهم لم يبنوا دولة، بل دولة قبائل تتصارع بين الحين والآخر في أزمات مدمرة، وعندما تتوقف، لا تقوم الدولة إلا للقوى الطائفية والمحاصصة وجني المغانم.
Leave a Reply