يخشى البعض هنا في الأرض المحتلة، أن تقدم سوريا على بيع المقاومة الفلسطينية في سوق النخاسة الأميركي، بعد أن حضرت مؤتمر السلام في أنابوليس ولو بتمثيل دبلوماسي منخفض، وهؤلاء يعتبرون أن أي صفقة مرتقبة بين الإدارة الأميركية والقيادة السورية، من شأنها تخلّي دمشق عن حلفاء إقليميين من بينهم المقاومة الفلسطينية في مقابل إسترجاع الجولان وتطبيع العلاقات مع الغرب، وتوقيع إتفاق سلام مع الدولة العبرية. هذا البعض يعتقد أن صفقة كهذه ربما تتيح لسوريا إطلاق يدها في لبنان وتوطيد علاقاتها مع حكومة العراق «الأميركية» والفكاك من رباطها الإستراتيجي مع إيران، وكأن ساحة الصراع في الشرق الأوسط مجرد لعبة شطرنج يجلس على حديّها جورج بوش وبشار الأسد، وأن الرجلين بإمكانهما تحويل مجريات صراع حضاري مديد لشعوب يصل عديدها مئات الملايين بمجرد صفقة.ثم من قال إن إرتداد أي زعيم مهما علا شأنه سيثني الشعوب المقهورة والمضطهدة والمسلوبة حقوقها عن مواصلة كفاحها؟ ألم يخرج السادات مصر من معادلة الصراع وهي القوة العسكرية والبشرية والثقافية الأولى في العالم العربي؟ ألم يعقد الملك حسين صلحا مع إسرائيل حيّد بموجبه أطول خط للنار بين العرب والدولة العبرية؟ ألم تسحق البوابة الشرقية للأمة العربية متمثلة في العراق ونظامه السابق ولا يزال جرحه مفتوحا؟ وإن قيادات فلسطينية ارتمت في أحضان أعدائها، فهل خمدت روح المقاومة أم تأجج لهيبها؟هذه غزة وذاك الجنوب اللبناني وتلك بلاد الرافدين كلها ثغور للعرب، سوف تظل عصية على المحتلين، وسوف تظل أرقاما صعبة في وجه المقامرين وتجار الصفقات، ما كانت القضية الفلسطينية يوما ملكا لزعيم حتى يقامر بها أو يطرحها بضاعة في الأسواق، فهذه قضية شعب وقضية أمة، إن تجرأ أولمرت في أية لحظة على شن هجوم واسع النطاق على غزة للإجهاز على المقاومة فيها، ستجد أصداء العدوان تتردد في عديد عواصم عربية وإسلامية، ما يعرض أنظمة الحكم فيها إلى الخطر، وستجد منظمات مقاتلة فرصة لتوجيه ضربات لمصالح أميركية وغربية، وستجد السلطة نفسها مضطرة للتراجع عن مسيرتها «السلمية» مع العدو الإسرائيلي، وستجد تل أبيب نفسها معزولة وغير قادرة على مواصلة مبادراتها باتجاه التطبيع مع محيطها العربي، وستجد أميركا تزيد صورتها بشاعة في العالم، ما يعني أن المقاومة الفلسطينية حظوظها في الصمود والإنتصار ليست مقصورة على حدودها الجغرافية التي تتحرك فيها، ولا على إمكانياتها العسكرية المحدودة، من هنا فإن ربط مصيرها بقرار هذا الزعيم أو ذاك، ربط غير واقعي ولا منطقي، وهذه الفكرة بدت واضحة وجلية إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز من العام الماضي، حين وقف زعماء عرب ينددون بالمقاومة ويحثونها على الإستسلام، لكنها حين صمدت والتف الشعب من حولها حققت إنتصارا أندى جبين هؤلاء وجعلهم يرتدون عن شعارات وتصريحات مخزية أطلقوها.ثم أن سوريا هذه التي يخشون من إرتدادها نحو المربع الأميركي الإسرائيلي، لو كان في نيّتها هذا الإرتداد لفعلته في ظروف تاريخية قاسية مرت بها، مرة حين كانت دمشق طريقها مفتوحة أمام الجيش الإسرائيلي في حرب 1973، ومرة حين سقطت بغداد بيد الجيش الأميركي، حينها اعتقد كثيرون أن أعصاب القيادة السورية سوف تتداعى مثلما فعل معمر القذافي وأعلن إستسلامه دون شروط. سوريا هذه التي يخشون «سلامها» خاضت ثلاثة حروب نظامية ضد إسرائيل، ودعمت المقاومة اللبنانية في تحرير أرضها، وضمّت في حضنها قيادات المقاومة الفلسطينية حين كانت ملاحقة ومنبوذة ومنكسرة، وعاش على أرضها بكرامة نصف مليون مشرد فلسطيني وملايين اللاجئين العراقيين، إن هي سلكت طريق «السلام» لإسترجاع أرضها السليبة وتدعيم إقتصادها وإصلاح نظامها السياسي والتخفيف من معاناة شعبها، فهذا هو ما تفعله على مدى سنوات وعقود ماضية، لكن إسرائيل هي التي تقف في طريقها، فهي تعتبر الجولان أرضا يهودية أقامت عليها مستعمرات وكشفت عن معابد وسيطرت على منابع مياه وطردت سكانها المحليين، بل وأعلنت ضمّ الجولان إلى كيانها قبل عشرات السنين، فأي سلام يخشاه البعض من سوريا وأي سلام يطلبه منها آخرون؟
Leave a Reply