مشهد افتراضي:
ابتسم الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني السيد حسن نصر الله ابتسامة ساخرة وهو يصغي الى تصريح زعيم “فتح الانتفاضة” العقيد أبو موسى من مدينة صيدا الجنوبية، حول رفض منظمته الانصياع الى ارادة لبنانية جامعة بسحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بصفته قضية “خارجة عن الارادة اللبنانية” وبزعم أنه موجود “للدفاع عن لبنان ولتحرير الأرض”!
انتهى المشهد.
ظهور زعيم “فتح الانتفاضة” المفاجئ على الساحة اللبنانية مجددا ومن مدينة صيدا الجنوبية بالتحديد وحديثه عن “السلاح الفلسطيني الذي لا يمس” حل كالصاعقة على المجتمع السياسي اللبناني برمته.
فهذا “المناضل” الفلسطيني العتيق ترك بصمات كبيرة على تلك الساحة بالمعارك القاسية التي خاضها ضد منظمته “فتح” الأم في البقاع والشمال والجنوب عندما أعلن انفصاله عنها في العام 1983، وبعدما كانت له أكثر من صولة وجولة في قتال القوات السورية المتواجدة في لبنان، تشهد على إحداها المعركة التي شهدتها مدينة صيدا بين “فتح” وقوى الحركة الوطنية اللبنانية من جهة والقوات السورية التي حاولت دخول المدينة في مطالع العام 1976 في محاولتها انهاء “دولة منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان آنذاك.
ومنذ أن تحول أبو موسى مع “انتفاضته” الى قتال الراحل ياسر عرفات في أكثر من موقعة في البقاع والشمال لحساب السياسة السورية في لبنان التي كان أحد أهم مرتكزاتها انهاء ما كانت تطلق عليه “الحالة العرفاتية” في الثورة الفلسطينية، استقر الرجل في دمشق مشكلا مع “الجبهة الشعبية–القيادة العامة” وبعض الفصائل الفلسطينية الأقل شأنا ما اصطلح على تسميته بـ”جبهة الرفض الفلسطينية” التي مارست منذ تأسيسها “نضالا سياسيا” من العاصمة السورية، فيما كانت تطورات الحرب اللبنانية التي انتهت بغزو اسرائيلي في العام 1982 تفرز مقاومة لبنانية وطنية للغزو بعد انكفاء قيادة قوات الثورة الفلسطينية عن الساحة اللبنانية وترحيلها الى تونس، ولتستقر مقاليد المقاومة في منتصف الثمانينات بين أيدي المقاومة الاسلامية التي أطلقها “حزب الله” والتي نجحت بعد صراع مرير وتضحيات هائلة في تحرير الجنوب اللبناني من قبضة الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000.
ثمة اسئلة كثيرة تطرح حول ظهور “أبو موسى” مجددا في لبنان، وبعد نحو ثلاثة عقود على غيابه، فيما يدخل لبنان مرحلة من الاستقرار الأمني والسياسي توجت سنوات من الصراع الداخلي على السلطة، وتخللها عدوان اسرائيلي واسع على لبنان في تموز العام 2006. لم يسمع أحد من اللبنانيين والفلسطينيين طيلة تلك الفترة شيئا عن “أبو موسى” سوى تلك الولادة المفاجئة لـ”فتح الإسلام” من رحم منظمته المنشقة “فتح الانتفاضة” التي خاضت معارك دموية قاسية ضد الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد أسفرت عن تدميره وتشريد عشرات الآلاف من سكانه، وانتهت بانكسارها وفرار قائدها المنشق شاكر العبسي الى جهة لا تزال مجهولة حتى اليوم!
ولعل أحد أبرز الأسئلة المطروحة هو توقيت ظهور “أبو موسى” على ضوء تأهب اللبنانيين لبحث ملف السلاح الفلسطيني خارج المخيمات تمهيدا للمطالبة بسحبه كما أجمعت على الأمر طاولة الحوار الوطني في إحدى جولاتها السابقة، وتنظيم وجود هذا السلاح داخل المخيمات. واذ أجمعت ردود فعل ما كان يسمى بقوى الرابع عشر من آذار على استنكار هذا الظهور والكلام الذي قاله صاحبه، بقيت قوى ما كان يسمى بالثامن من آذار ملتزمة الصمت، وعلى رأسها “حزب الله” المعني الأول بالمقاومة في لبنان. وباستثناء الرد المقتضب و”المؤدب” الذي صدر عن زعيم “التيار الوطني الحر” الجنرال ميشال عون، ردا على سؤال، ومفاده: “إن الرجل تراجع عن أقواله وهذا يكفي”. وقول زعيم تيار المردة سليمان فرنجية “إن الوجود الفلسطيني برمته هو خرق للسيادة اللبنانية (!) لكن من حق الفلسطينيين أن يدافعوا عن أنفسهم في وجه اللبنانيين الذين يحاولون تقرير مصيرهم”!
باستثناء ذلك، وما نقل عن اعتراض رئيس الجمهورية خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، لم يدل أي مسؤول لبناني آخر من المعنيين بشأن المقاومة بأي تعليق حول التصريح الصاعق لـ”أبو موسى”.
البعض يرجع هذا الصمت الى حرج ما كان يعرف بـ”قوى 8 آذار” وعلى رأسها “حزب الله” من الكلام “الأبو موسوي” وذلك تفاديا لنفخ بعض الروح في جسد القرار الدولي 1559 الذي ينص على سحب سلاح جميع الميلشيات اللبنانية وغير اللبنانية وحصره بسلطة الدولة اللبنانية، هذا مع العلم أن موضوع سلاح المقاومة بات خارج المفهوم الميلشيوي لامتلاك السلاح ومحالا الى طاولة الحوار الوطني المخولة وحدها بحثه ضمن محاولة الأطراف اللبنانية استنباط صيغة تعايش بين المقاومة والدولة بما يعيد للدولة بعضا من حضورها، ولا يلغي المقاومة كحاجة لبنانية ضرورية في وجه الأطماع والمؤامرات الاسرائيلية الى حين اشتداد عود الدولة واكتساب القدرة على الدفاع عن شعبها وأرضها وسيادتها.
وحرج قوى المعارضة اللبنانية السابقة (إذا اعتبرنا أن لا معارضة موجودة حاليا، بعد انخراط جميع القوى في حكومة الوحدة الوطنية). يرتبط على الأرجح، بحقيقة أن القائد الفلسطيني العائد من إجازة نضالية مديدة، مقيم في العاصمة السورية التي لا يختلف اثنان على تحكمها بتحركاته وتصريحاته، اللهم إلا إذا كان هنالك من هم من السذاجة بحيث يصدقون زعم زعيم “فتح الانتفاضة”. أن لا سلطة لأي جهة على القرار الفلسطيني وعلى سلاحه إذ هو كما يؤكد جاء “في سياق الصراع العربي – الصهيوني”.
ولم يكن بلا مغزى، وقوف “أبو موسى” في اليوم التالي على ضريح المسؤول العسكري للمقاومة عماد مغنية ليعلن “إيضاحاته” ومفادها أن تصريحه “تعرض للإجتزاء” وهو على استعداد لبحث اجراء “تعديلات” على وجود السلاح خارج المخيمات وبما يؤدي الى تشكيل ظهير داعم للمقاومة اللبنانية. “نحن جند المقاومة” قال!
وبالعودة الى مسألة التوقيت، لم يبدُ بلا مغزى أيضا ظهور أبو موسى على هامش “الملتقى العربي والإسلامي والدولي لدعم المقاومة في لبنان وفلسطين” الذي شهدته العاصمة اللبنانية الاسبوع الماضي، وتوج لقاءاته وندواته باحتفال قرب الخط الأزرق في بلدة مارون الراس الحدودية. فهذا اللقاء الذي ضم ممثلين عن حركات مقاومة منذ العهد النازي في أوروبا و”حركة الاستقلال” الأميركية وصولا إلى العراق وتجمع علمائه وحارثه الضاري، الملتبسة مقاومته العراقية بين التصدي لاحتلال أميركي والانخراط في صراع دموي مذهبي مع “إخوانه الشيعة” فضلا عن رموز “مقاومة” من السودان واليمن… هذا اللقاء ربما أدخل الحسرة والمرارة في نفس العقيد الفلسطيني لعدم عودته للمشاركة في فعاليات الملتقى، فاختار أن يدير الرؤوس نحوه، بتصريحه المدوي الذي حل كصاعقة في سماء لبنانية صافية أو توهم اللبنانيون أنها صفت، بعد زيارة رئيس حكومتهم الى دمشق ونضال أبرز قادة “ثورة الأرز” وليد جنبلاط من أجل قطع المسافة النفسية المستحيلة بين المختارة والعاصمة السورية.
بالتأكيد انهالت أسئلة لبنانية كثيرة على العاصمة السورية بعد التصريح-القنبلة. ولعل عدم تلقي اجابات شافية على تلك الاسئلة هو ما جعل قيادات لبنانية بارزة تتحصن بالصمت وانتظار ما ستحمله الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة من “تفسيرات ميدانية” لهذه “العربشة” الفلسطينية على بوسطة التوافق اللبناني الهش التي بالكاد استطاعت الاقلاع من محطة شبح الحرب المذهبية التي باتت فيها طيلة سنوات عصيبة ومقلقة.
كأنها سياسة التدوير: من “فتح الانتفاضة” إلى “فتح الاسلام” إلى “جند الشام”، وما بينها من “ماركات نضالية” غير مسجلة تطالع اللبنانيين كلما توهموا أنهم سينعمون بفترة هدوء واستقرار. والغريب المدهش أن تصريحا من النوع الذي فجره العقيد سعيد موسى بفظاظته واستهتاره بعقول كل اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، يلقى آذانا لبنانية “متفهمة” لدوافعه، فيما تصم آذان أخرى عن سماعه!
أليست “المقاومة الإسلامية” التي يقودها حزب الله وقبلها المقاومة الوطنية هما من دفع مع اللبنانيين أغلى التضحيات ضريبة الحروب العبثية التي قادها “أبو موسى” وأمثاله من المناضلين المتقاعدين، في سبيل تحرير الأرض اللبنانية من احتلال سهلت مهمته ومهدت له تلك الممارسات الفوضوية والتدميرية التي أسهم فيها تنظيمه على مدى عقود؟
ثمة أسئلة مقلقة تحتاج الى مصارحة من كل المعنيين بمصير الشعب اللبناني أبرزها: لماذا يطل موضوع السلاح الفلسطيني برأسه عليهم كلما تجاوزوا محنة انقسام أو سلكوا طريق وحدة؟
وهل وراء أكمة التصريح ما وراءها، ومن يحق لهم أن ينبروا لتسفيه التصريح السقيم، في أفواههم ماء؟
وكيف يصبح تنظيم “فتح الانتفاضة” الذي لم يعد يملك من مبررات وجوده سوى حفنة من المواقع المغروسة بين ظهراني بعض المدن والقرى اللبنانية بلا أي طائل أو جدوى في مقاومة اسرائيل، تنظيما في خدمة المقاومة؟ وهل تحتاج المقاومة التي تمتلك عشرات آلاف الصواريخ ومثلها من المقاومين ذوي البأس الذين لقنوا اسرائيل دروسا لن تنساها في القتال والصمود والانتصار.. هل تحتاج الى “جند أبو موسى”“ في الدفاع عن لبنان وشعبه ومخيماته الفلسطينية؟
أم أنه فصل جديد من فصول المسرحية التراجيدية التي تستضيفها خشبة مسرح الدمى اللبناني المشرعة لكل أنواع “الممثلين” الهواة لأدوار أكبر من أحجامهم؟
أم هي عودة مبكرة الى “لبنان-علبة البريد” لمختلف الرسائل الخارجية المتناقضة، في فترة انعدام الوزن التي تعيشها المنطقة العربية والشرق أوسطية، والتي تشهد انعطافات استراتيجية ولو بطيئة، لن يقلل من شأنها أي زعيم طائفي لبناني مهما تفاصح في اقناع اللبنانيين بأن الصفقات الجاري اعدادها في المطابخ السرية الاقليمية والدولية لن تكون على حساب لبنان، بشعبه ومقاومته وسيادته واستقلاله على حد سواء؟
لقد اختار “أبو موسى” أن يحج “مقاوماتيا” في الربوع اللبنانية فيما تبدو المقاومة اللبنانية على طريق العودة من “رحلة الحج” التي أتمت فروضها على أكمل وجه فحررت الأرض وردعت العدوان وهي بالتأكيد ليست بحاجة الى “جنده” ولا الى قواعده “الإعلامية” الهزيلة المنتشرة خارج المخيمات.
Leave a Reply