بعدما كان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع متخصصا في مهاجمة «حزب الله» والرد على مواقف أمينه العام السيد حسن نصرالله، لوحظ أن الرجل خفف خلال المرحلة الأخيرة من حدة لهجته حيال «الحزب»، بل أنه لم يتردد في التودد إليه عبر مخاطبة قيادته بـ«الإخوان» في الاحتفال الذي أقامته «القوات» مؤخراً في معراب.
لم يركز جعجع في خطابه على سلاح الحزب وضرورة نزعه كما درجت العادة في أدبيات «القوات»، بل اكتفى بالدعوة إلى عودة مقاتليه من سوريا مستخدماً نبرة هادئة لم تكن مألوفة في الماضي، ما دفع إلى التساؤل حول أبعاد هذه اللهجة الجديدة لجعجع، وهل هي ترتكز على قاعدة سياسية متينة أم أنها مجرد إشارة شكلية لا تتحمل المبالغات في التفسيرات السياسية؟
ما يبدو أكيداً هو أن جعجع قرر تخفيض منسوب التوتر في علاقته مع «الحزب»، وأنه يعيد تموضع أولوياته التي لم يعد يتصدرها سلاح المقاومة، لاسيما أن استطلاعاً للرأي كانت «القوات» قد أجرته عشية الانتخابات النيابية السابقة أظهر أن اهتمامات القاعدة المسيحية باتت تتمحور حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية بالدرجة الأولى.
وهناك في «القوات» من يعتقد أنه يجب التركيز في هذه الفترة على عدم انهيار الدولة من الداخل بفعل تفشي الفساد وتفاقم الأزمة الاقتصادية، حتى يمكن الاستمرار في الدفاع عن سيادتها واستقلالها في مواجهة أي سلاح غير شرعي، لأنه ما نفعُ السيادة والاستقلال لدولة منهارة؟ تبعاً لاصحاب هذا الرأي في الدائرة المحيطة بجعجع.
وعلى قاعدة هذه المقاربة، تفترض «القوات» أن هناك إمكانية للتعاون مع «حزب الله» في مجال مكافحة الفساد والهدر، لاسيما بعدما قرر «الحزب» التصدي لهذا الملف وتصنيفه ضمن أولوياته، وهو أمر تشجع عليه «القوات» لأنه يشكل برأيها إشارة إلى اتجاه «حزب الله» نحو مزيد من «اللبننة» في سياساته بعدما كانت الأدوار الإقليمية قد استحوذت على اهتمامه في السابق، وفق اعتقاد معراب.
ويعتبر المتحمسون للانفتاح بين «القوات» وحزب الله أن الطرفين لم يتلوثا بالفساد وسلوكهما في السلطة يكاد يكون الافضل وبالتالي فان تعاونهما تحت سقف هذا القاسم المشترك تحديدا سيعطي قوة دفع لمشروع الاصلاح وللمعركة ضد الفاسدين.
حسابات «الحزب»
لا يمانع «حزب الله» من حيث المبدأ من تنسيق موضعي مع «القوات» ضمن مؤسسات الدولة التي تجمعهما، وتحديداً في مجلسي النواب والوزراء. وقد سُجلت خلال الفترة الماضية تقاطعات عدة بين الجانبين، كما حصل على طاولة مجلس الوزراء حين التقى الطرفان على ضرورة أن تتولى إدارة المناقصات التدقيق في ملف استئجار بواخر الكهرباء التركية حرصا على التأكد من مراعاته لمعايير الشفافية، علماً أن «التيار الوطني الحر» الذي هو حليف الحزب كانت له مقاربة أخرى لهذه المسألة.
حتى الآن، هذا هو الحيز الوحيد الذي يمكن أن يتسع لـ«حزب الله» و«القوات» معاً، أما الذهاب أبعد من ذلك فإنه متعذر حالياً بسبب استمرار الهوة السياسية الكبيرة بين الجانبين على مستوى الخيارات الاستراتيجية، داخلياً واقليمياً، بدءاً من الافتراق الواسع في الموقف حيال سلاح المقاومة وصولاً إلى الخلاف الحاد حول قضايا المنطقة وتموضع كل منهما في محور إقليمي ضد محور آخر.
وعليه، لا مؤشرات حقيقية إلى إمكان حصول تقارب سياسي على هذا الصعيد، خصوصا أن «حزب الله» المنتصر في سوريا يعتبر أن الأحداث تثبت صوابية خياراته، وموازين القوى تعزز أوراقه، وبالتالي فهو ليس مضطراً إلى أي تراجع في اللحظة التي تتراكم فيها مكاسبه، فيما جعجع المتحالف مع السعودية ليس في وضع يسمح له بأن يقدم تنازلات جوهرية في قضايا حيوية أمام حليف إيران المركزي في لبنان والإقليم.
وانطلاقاً من هذا الاصطفاف، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه في الوقت الحاضر هو تنظيم الخلاف بين «الحزب» و«القوات»، على قاعدة تحييد المسائل المعقدة التي تستعصي حالياً على التفاهم، ومحاولة تعزيز التنسيق في الأمور الداخلية المحض التي تتصل بشؤون الدولة وهموم الناس.
رئاسة الجمهورية
ومع ذلك، يعتقد البعض أن جعجع يطمح من خلال مرونته المستجدة في التعاطي مع حزب الله إلى التمهيد منذ الآن لتحسين فرص وصوله إلى رئاسة الجمهورية في المستقبل، عبر تلميع صورته ومد الجسور في اتجاه الضاحية الجنوبية، وهو الذي يعلم أن الحزب يشكل احد الناخبين الكبار الذين يحددون هوية رئيس الجمهورية في لبنان.
لكن جعجع يدرك في قرارة نفسه أن مهمته صعبة جداً وربما مستحيلة ما دام يعادي سلاح المقاومة ويشكل جزءاً عضوياً من مشروع إقليمي مضاد لها، وأنه يحتاج إلى استدارة سياسية كاملة حتى يصبح اسمه من المرشحين الجديين إلى الرئاسة.
ثمة بُعد أخر في ليونة جعجع، وهو أن الرجل الذي يخوض معركة شرسة ضد رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل ويشعر بأن هناك محاولة لمحاصرته، إنما يريد إيصال رسالة إلى باسيل ومن خلفه الرئيس ميشال عون، مفادها أنه غير قابل للكسر والعزل ويستطيع اختراق الجدار السميك الذي يفصله عن «حزب الله»، إلى جانب تمكنه من استعادة التحالف المتين مع الرئيس سعد الحريري، وانفتاحه على كل من الرئيس نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، موحياً بأنه قادر على «توسيع بيكار» علاقاته ورقعة انتشاره السياسي على امتداد الجمهورية رداً على المسعى الرامي إلى تحجيمه عبر اقتراح حصة وزارية متواضعة له في الحكومة المقبلة، لا تتناسب في اعتقاده مع النتيجة التي حققتها «القوات» في الانتخابات النيابية.
Leave a Reply