صبحي غندور
يعيش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فـيه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو فـي ضمان «حقوقهم» الطائفـية والمذهبية، وأنّه فـي الولاء لهذه الدولة أو تلك على أساس الانتماء المذهبي، وفـي الاعتماد على هذا المرجع الطائفـي-المذهبي أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب، وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفـيّة التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.
نعم، هناك عربٌ ومسلمون يقومون الآن بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت راياتٍ «مذهبية» أو «إسلاميّة»، وعمليّاً يحقّقون ما يندرج فـي خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة العربية، ولكلّ العالم الإسلامي، من تقسيم طائفـي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة، ويقيم حواجز دمٍ بين أبناء الأوطان الواحدة أو الدين الواحد. فهذا «الوباء الإسرائيلي» التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها فـي العالم كلّه.
هناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة والإسلامية قبل فوات الأوان، وهناك حاجةٌ أيضاً إلى فكرٍ عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفـيّة والمذهبيّة والقبلية، ويقوم على الديمقراطيّة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحهم فـي إقرار الدساتير والقوانين… وهناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين المثقّفـين العرب لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل كانتونات فدراليّة تحقّق مصالح فئوية مؤقتة… وهناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من «يُجاهد» فعلاً، فـي المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، وبين من يخدم سياسياً مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة…
قبل قرنٍ من الزمن، عاشت البلاد العربية حالةً مماثلة من التحدّيات ومن آثار صراعاتٍ دولية وإقليمية، لكن قياداتها لم تكن بمستوى هذه التحدّيات، فدفعت شعوب المنطقة كلّها الثمن الباهظ. عسى ألا تتكرّر الآن مأساة الأمّة العربية بالسقوط فـي هاوية تقسيم جغرافـي جديد، يتمّ فـيها رسم الحدود بالدّم الأحمر للشعوب، لا بالحبر الأسود فقط للقوى الإقليمية والدولية المهيمنة!.
إنّ تنظيم «داعش» ينتعش ويستفـيد حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً وهم يدعمون ضمناً -ولو عن غير قصد- مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى «عدوّهم» الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة عربية أو إسلامية أخرى. فالحديث عن «الخطر المذهبي»، وعن وجود «العدوّ الآخر» فـي داخل الوطن أو من دولة مجاورة، يساهم فـي إعطاء الأعذار لوجود «داعش» ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها. فالمواجهة مع جماعات «التطرّف العنفـي» تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني.
إنّ المعيار السليم للتعامل مع ما يحدث الآن من تأجيج طائفـي ومذهبي فـي المنطقة، هو فـي التساؤل عن المستفـيد الحقيقي من كلّ ذلك التأجيج وعن الخاتمة المترتّبة عليه. ولا يجب أن تكون صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، عناصر تدفع من يرفضون واقع العرب اليوم، لليأس والإحباط، بل إنّ هذا الواقع يفرض المزيد من المسؤولية والجهد والعمل لتغييره نحو الأفضل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون فـي وحدة بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة فـي رحابها.
إنّ الفتن الداخلية العربية الجارية الآن فـي أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي-الصهيوني على مدار مائة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفـيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع الجسم العربي والأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني-الصهيوني مع الاتفاق البريطاني-الفرنسي المعروف باسم «سايكس-بيكو» والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى فـي فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت فـي البلاد العربية وبين الصراع العربي-الصهيوني.
إنّ ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المئة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري-الأردني-الفلسطيني بها، بعد معاهدات «كامب ديفـيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ «تطبيع» بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافـية لتثبيت «شرعية» الوجود الإسرائيلي فـي فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه «الشرعية» تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى فـي محيط إسرائيل على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة -إسرائيل دولة لليهود-. فكلّما ازدادت الصراعات الطائفـية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق فـي أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى فـي منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفـية ومذهبية.
فكيف يمكن وقف هذا الانحدار نحو مزيدٍ من التقسيم للأوطان والشعوب، ومن أجل تجنّب الموت فـي الأفخاخ المرسومة للمنطقة العربية؟
إنّ الإجابة عن ذلك لا تتوقّف على فردٍ أو جماعة أو طائفة وحدها، وإنّما المسؤولية تشمل العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وفـي كلّ بقعةٍ بالعالم يعيش عليها عرب.
فالمسؤولية تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة فـي أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفـي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه.
وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه.
والمسؤولية تشمل أيضاً الأنظمة كلّها والمنظمات العربية كلّها التي استباحت لنفسها استخدام سلاح -المذهبية- فـي صراعها مع بعضها البعض، أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة لها.
وعلى الجميع أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفـية والمذهبية لتفسير كل حدث أو قضية أو صراع…
المشكلة أيضاً، هي فـي بعض الحركات الدينية الموزّعة ما بين الطرح التقليدي السلفـي وبين حركاتٍ عنفـية شوَّهت فـي ممارساتها واقع المسلمين وصورة الدين نفسه. وقد كانت وما زالت هذه الحركات السياسية الدينية مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفـية أو مذهبية أو إثنية، أو كلّ ما سبق.
لذلك سيبقى المطلوب عربياً هو بناء تيّار عروبي يقوم على مفاهيم فكرية لا تجد تناقضاً مع دور الدين عموماً فـي الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً مع تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وتقوم على الديمقراطية فـي نظام الحكم وفـي أساليب المعارضة. تيّار عروبي يرفض الصراعات الطائفـية والمذهبية ولا يقبل باستخدام العنف لتحقيق أهدافه. تيّار عروبي يدعو للبناء السليم للمؤسسات العربية المشتركة، وللمنظمّات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. تيّار عروبي تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية فـي كلّ بلدٍ عربي وليس الانغماس فـي وحل الصراعات الأهلية.
Leave a Reply