فاطمة الزين هاشم
عندما يفقد أحدنا شيئاً مادّياً اعتاد عليه فلا بدّ أن يشعر بفداحة الفقدان، فكيف لو كان إنساناً عزيزاً على قلبه؟ إنّه سيحيا الفراغ الذي يتركه الغياب ويعاني من وطأة الفقد الذي يلحّ بوجعه على مدى ساعات النهار دون أن يتوقّف حتّى فـي هجعة الليل.
حصل ذلك لديّ شخصيّاً عندما غادرت حفـيدتي (لميس) بيتنا للإلتحاق بوالدها الذي أخذها منّا وسلخها من أحضان أمّها فـي وقت هي بأمسّ الحاجة إليها بهذه السنّ الصغيرة، لتعيش وحيدة بعيدة عن البيت الذي ربّاها منذ ولادتها حتّى بلغت السادسة من عمرها، وتعوّدت عليه كملاذها الآمن، ساعة أخذها أبوها وهي تخطو أولى خطوات الفراق وظهرها يبتعد عنّي تدريجيّاً، شعرت بأنّ قطعة من جسدي قد استقطعت، فأخذت أدور فـي أركان
البيت أفتّش عنها لعلّي أجدها مختبئة فـي إحدى زواياه مثلما كانت تفعل عندما تريد ممازحتي، هرعت إلى سريرها الصامت بدونها، ألعابها الحزينة المبعثرة فـي الغرفة كأنّما كانت مثلي تناديها
وتريد اللحاق بها، تنهمر دموعي على خدّيَّ كشلّال لا يتوقّف.
ولأنّها كثيراً ما كانت مولعة بما تختار من برامج (اللاب تاب) الخاص بي، فرحت أنظر إليه مليّاً، كم وددت لو عادت إليه، رغم أنّها كانت تستحوذ عليه طوال الوقت بعد عودتها من المدرسة حتّى تقول لي (هذا ملكي يا تاتا فاذهبي واشتري لكِ غيره ثمّ تضحك مثل ملاك، بذلك الثغر الجميل الذي تعوّد على مناداتي بألفاظ الطفولة التي تزيل الهموم من قلبي خاصّة حين تختلط كلماتها العربيّة بالإنكليزيّة فتصبح لغتها الإستثنائيّة التي لا يفهمها غيري، وكانت تبحث عمّا ترغب من برامج الأطفال تحت مراقبتي فأرى ما تشاهد من رسوم متحرّكة، حيث أنّ النسبة الكبيرة منها مستوردة وأعدّت وأخرجت لغير بيئتنا، وقد يكون بعضها قد أعدّ من قبل أعدائنا بهدف غزو عقول أطفالنا من أجل تشويه القيم التي تربّوا ونشأوا عليها، وتتسرّب المفاهيم الخاطئة إلى أذهانهم فتنعكس على تصرّفاتهم، لذلك يجب التنبيه إلى ذلك، فنحن إذ نظنّ أنّ أطفالنا يتسلّون ويتمتّعون بالمشاهد المعروضة أمامهم غير أنّ علينا مسؤوليّة متابعة ومراقبة ما يقع تحت أنظار أطفالنا، ذلك أنّ هناك بعض البرامج تشجّع الأطفال على العنف، كاعتداء طفلٍ على أخيه أو أخته محاولاً تطبيق ما شاهده، حيث أنّ الأطفال عادةً يعتادون على تقليد كلّ ما يرونه من تصرّفات شخصيّات الأفلام دون قيود، وعليه فإنّه يتوجّب على ذويهم أن يتصدّوا لهذه السلبيّات المضرّة بأطفالنا ومحاولة إبعادهم قدر المستطاع عن متابعة البرامج المؤذية، خاصّة ونحن نحيا فـي زمنٍ يضجّ بالفضائيّات التي تبثّ سمومها فتوجّه أطفالنا التوجّه غير السليم.
إنّ (لميس) التي أوحت لي بهذه الأفكار، كم كانت تضحكني وأنا فـي غمرة همومي حيث كانت ترتدي مريلة المطبخ الخاصّة بي وتقف على الكرسي بقامتها القصيرة محاولة غسل الصحون بيديها الصغيرتين غير آبهة بثقلها قياساً إلى طاقتها، ولا يهمّها ما يتساقط منها إلى مصير الكسر، كم حاولت ثنيها عن ذلك، لكنّها تهرع هذه المرّة إلى انتعال حذائي ذي الكعب العالي لتعود واقفة إلى جنبي قائلة: (هل تنظرين.. إنّني أصبحت كبيرة وأستطيع عمل كلّ شيء تقومين به، لم أعد صغيرة كما تظنّين)، ثمّ تروح مسرعة تمسك بالقلم والورقة وهي ترسم ملتفتة إلى أمّها وتأخذ بتقليدها، وهنا يبدأ دور الأم فـي تنمية الموهبة، إذ كثيراً ما تبدأ بوادر الموهبة لدى الأطفال من الورقة والقلم، وهي التي تحتاج إلى مكمّلاتها المتمثّلة فـي الدفء والتقارب العاطفـي بين الطفل والأم، فـيكون ذلك حافزاً وداعماً للسلوكيّات الإيجابيّة التي ينموا عليها الأطفال الموهوبون، إنّهم يستحقّون هذه الرعاية، ذلك لأنّهم هم ذخر الأمّة وقادة المستقبل وعليهم يتوقّف ادّخار الأمم لنهوضها وازدهار حضاراتها.
Leave a Reply