بالأمس استوقفني تحقيق صحفي نشرته جريدة «ديترويت نيوز» حول مؤسسة تأمين صحي في ميشيغن، مسجلة في الأصل قانونيا على أنها غير ربحية، هدفها الأسمى خدمة المجتمع والأعضاء المنتسبين لها، وهي «بلو كروس بلو شيلد»، وجاء في التحقيق أن مجمل عوائدها بلغت العام الماضي 23 مليار دولار، وهو يوازي ميزانيات سبع دول عربية، وأنها حققت أرباحا صافية بلغت 833 مليونا في عام واحد، تكفي لأبعاد غائلة الجوع عن شعوب في أفريقيا وأميركا اللاتينية. ما يهمنا في هذا المقام ليست الأرقام الفلكية التي تدور في سماء الولايات المتحدة، فهذه دولة كل شيء فيها عظيم وهائل، فشركات النفط الأميركية مثلا بإمكانها شراء قارة بأكملها لو كان كل شيء في الدنيا محكوما بالبيع والشراء.
لكن الذي أثار زوبعة حول «بلو كروس بلو شيلد» الرواتب التي يتقاضاها كبار موظفيها، عشرة منهم نشرت صورهم وأسماؤهم في «ديترويت نيوز» أقلّهم يحصل على زهاء مليون دولار سنويا، ما دفع النائب العام في الولاية مايك كوكس إلى التدخل بما لديه من سلطات منحها له القانون، لكشف ما يدور في كواليس هذه المؤسسة «غير الربحية»، في ظل ما اعتبره كوكس أوقاتا عصيبة يمر بها مواطنو ميشيغن لناحية فقدان الوظائف وارتفاع الفواتير الصحية وجنون الأسعار في محطات الوقود، إذ كيف لهؤلاء الموظفين أن يعيشوا في «نعيم» ومواطنوهم يئنون من الإنزلاق نحو خط الفقر، ومئات الآلاف منهم لا يجدون عملا ولا تغطية صحية، فذلك منطق لا يستوي في نظر كوكس، حتى لو كان ذلك في الولايات المتحدة عميدة الديمقراطية والإقتصاد الحر وهيمنة رأس المال. وعليه طالب النائب العام مجلس إدارة «بلو كروس بلو شيلد» بإعطاء تفسير للرواتب الباهظة التي تمنح لموظفيها، وكذلك بتخفيضها إلى حدود منطقية مواكبة للوضع الإقتصادي في الولاية، بل وأوعز إلى وسيلة إعلامية كبرى بفضح هذه الممارسات ونشرها على الناس.
يا ليت كان مايك كوكس عربيا، ويا ليت كان منصبه وسلطاته معممة في جميع البلدان العربية، هناك 15 بالمئة من الناس يستأثرون بـ 85 بالمئة من الثروة، والباقون يعيشون على فتاتها، شوارع القاهرة شهدت الأسبوع الماضي قتالا بالسلاح الأبيض في طوابير الخبز، بحسب ما وصفته محطة فضائية عربية، ملايين المصريين يعيشون في «العشش» وآخرون في المقابر، لا تعلم عنهم الدولة شيئا ولا تلقي لهم بالا، كأنهم سقطوا إلى العاصمة المصرية من كوكب آخر.
وحين نسوق مصر مثالا على تأخر العقل العربي والتأزم الذي يمر به العرب إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا وحضاريا، فلا يعني ذلك أن بقية الشعوب العربية أفضل حالاً، فهذه الإنقلابات وحركات التمرد والإنشقاقات والفتن المذهبية والطائفية التي تعم العالم العربي، ما هي إلا ترجمة للبؤس المعيشي وغياب العدالة في توزيع الثروات، إن كان ذلك في السودان أو في لبنان وفلسطين والصومال واليمن والبقية تأتي.
ثم يأتي من يسأل لماذا تتركز بؤر الإرهاب في الشرق الأوسط؟ ألا يدرك هؤلاء أن من لا يجد قوته وقوت عياله، وتهدر كرامته ويدنّس شرفه، خير له أن يحمل السلاح في وجه جلاديه ويموت، على أن يستمر بحياة لا أمل فيها؟
Leave a Reply