لا يمكن لزيارة وزيرة الخارجية الإسرائيلية للعاصمة القطرية، للمشاركة في «منتدى التنمية والديمقراطية والتجارة الحرة وحقوق الإنسان» أن تمر بقدر أقل من الإستهجان (لا نقول الإستنكار) العربي فيما لو كانت هذه الزيارة لأي بلدٍ عربي أو إسلامي آخر. فالإمارة العربية الصغيرة التي أعطتها قناة «الجزيرة» حضوراً عربياً وعالمياً أكبر من حجمها بكثير، تبدو «محروسة» من أعين وألسن حجافل المنتقدين المستنفَرين على الشاشات الفضائية، متربصين بأي زللٍ في الخطو أو خطل في اللسان لأي مسؤول عربي تسوّل له نفسه الخطل أو الزلل أمام أبراج مراقبة «الممانعة» مع الوصفات الجاهزة بـ«العمالة» و«الخيانة».لا تزال صورة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، وهو يطبع قبلة على خدّ وزيرة الخارجية الأميركية السمراء، مدعاة للكثير من التعليقات الساخرة التي تزخر بها أدبيات التخوين الرائجة هذه الآونة، ويتم إستحضار الصورة كـ«وسيلة إيضاح» على «عمالة» الرجل للأميركيين، وبالتالي للإسرائيليين، خصوصاً بعد عدوان تموز 2006 على لبنان وما رافقه وتلاه من تداعيات لبنانية وعربية وفرز لألوان المواقف التي لا تحتمل غير الأبيض والأسود و«مع» أو «ضد» إلى حد بات المواطن العربي أو اللبناني الذي يحاول التجوال في المساحة الضيقة بين جبهتي «الممانعين» و«المتخاذلين» لا لون له ولا طعم ولا رائحة.الموضوعية والإنصاف بقتضيان، مع ذلك، عدم التشكيك بالنوايا القطرية من وراء دعوة الوزيرة الإسرائيلية إلى منتدى الدوحة لسبب بسيط هو أن حكام الإمارة هم من اللاحقين وليسوا السابقين إلى إقامة علاقة مع إسرائيل بقيت بمستوى «التمثيل التجاري» وحسب.فهنالك دولتان عربيتان إحداهما كبرى (مصر) أدى خروجها من الصراع العربي – الإسرائيلي إلى حدوث صدع كبير وخطير في جدار هذا الصراع ودولة أخرى صغرى (الأردن) كانت ولا تزال ترتبط بعلاقة «قسرية» مع هذا الصراع، نظراً للترابط الجغرافي والديموغرافي مع الشعب الفلسطيني، صاحب القضية العربية المركزية، وهو ترابط لا فكاك منه، رغم المحاولة التي بذلها الملك الأردني الراحل في العام 1987. هاتان الدولتان ترتبطان بمعاهدتي سلام مع الدولة العبرية منذ سنوات طويلة.لا يُفترض، إذن، أن يشكل نزول الوزيرة الإسرائيلية في الدوحة «إحراجاً» لحكام قطر، وفي أسوأ تقدير لا يتعدى هذا الإحراج أن يكون مادة مزاح ومداعبة مع الوزيرة الإسرائيلية الحنطية الشابة التي «عاتبها» رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم من «أن سبعة إلغاءات (لحضور المنتدى) قد حصلت بسببها» متمنيا، أن لا تتسبب لإمارته بمزيد من المشاكل. ولكي لا يقع بعض المشاركين من دول ومنظمات لا تزال تراعي مشاعر «الممانعين» في إشكالات بروتوكولية، حرص المسؤول القطري على إجلاس الوزيرة على طاولته، ومصافحتها أمام غابة الكاميرات في قاعة المنتدى، من باب رفع معنوياتها، على الأرجح، وهو الذي يرتبط معها، على ما يشاع، بعلاقة صداقة دبلوماسية مميزة إنطلاقاً من موقعيهما المتشابهين في دولتي إسرائيل وقطر.أما الوزيرة الإسرائيلية فلا تجد حرجاً من الذهاب إلى أي مكان لـ«شرح» وجهة النظر الإسرائيلية وتكرار المواقف الإسرائيلية المملة عن سعي الدولة العبرية إلى السلام مع كل العرب وبعدما صار هذا السعي مطلباً عربياً ايضاً لا يخفيه كبار «الممانعين» و«المتخاذلين» على حدّ سواء.على أن ظروف الزيارة تتعدى الشكل على أهميته، إلى المضمون الأخطر في هذا الزمن العربي المأزوم من المشرق إلى المغرب، مرورا على وجه الخصوص، بالخليج العربي الذي تقبع الإمارة القطرية في قلبه، وتشكل جزيرتها الجغرافية والإعلامية نقطة تقاطع شديدة الحساسية بين مصالح إقليمية ودولية متناقضة، لأصحاب المشاريع السياسية والإقتصادية الطموحة في تلك المنطقة من العالم التي تحتضن مصادر الطاقة لعدة أجيال قادمة.ثمة مفارقات في إيقاعات حركة الصراع الدائر في المنطقة بين المشروعين الأميركي والإيراني، تجعل منها مادة للإلتباس الذي يبدو للوهلة الأولى عصيا على التفسير. فقبل أشهر قليلة حلّ الرئيس الإيراني المحافظ محمود أحمدي نجاد الذي ينام ويصحو على حلم إزالة إسرائيل عن الخارطة، ضيفاً على قمة مجلس التعاون الخليجي المنعقدة في العاصمة القطرية إياها. وبالأمس حلت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ضيفة على منتدى الدوحة للديمقراطية في المكان عينه، وما بين الحدثين اللذين احتضنتهما دولة قطر تفاقمت أزمة الثقة بين «عرب الممانعة» و«عرب التخاذل» الذين صار بينهم ما صنع ويصنع «الحدّاد الأميركي» وحيث بات تطبيع العلاقات بين أبرز محاورهما: المصري – السعودي – الأردني وحلفاؤه من جهة، والسوري وحلفاؤه في الجهة المقابلة بحاجة إلى مؤتمر قمة عالمي، لعلّه يعوض إخفاقات مؤتمرات القمة العربية، وينتج حلولاً لأزمات المنطقة من العراق إلى فلسطين ولبنان، فتعود المياه إلى مجاريها في أنابيب العلاقات المسدودة بفعل الإحتقانات العربية – العربية والعربية – الإيرانية.وبالعودة إلى المضمون الذي انطوت عليه زيارة ليفني إلى الدوحة وإرتقائها منبر «منتدى الديمقراطية» لمخاطبة المشاركين العرب والشرق أوسطيين والأمميين، فإن خطاب الوزيرة الإسرائيلية شكل فرصة قيمة للرد «الحضاري» على التهديدات الإيرانية المتلاحقة للكيان الصهيوني، ومن داخل البيت الخليجي الذي يحاول جاهداً إغلاق نوافذه أمام رياح الصراع الإقليمي البارد وإمكان تحوّله إلى صراع ساخن في أي وقت يقدّر أحد الأطراف أنه بات يمتلك زمام المبادرة لفرض رؤيته وأجندته على المنطقة.كان اللافت عدم إشارة الوزيرة الإسرائيلية إلى إيران بالإسم عندما صنفت أطراف الصراع في المنطقة بين معتدلين ومتطرفين، لأجل عدم إحراج الدولة المضيفة التي تقع على تماس مائي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لم تشعر تسيبي ليفي بـ«الغربة» خلال وجودها في الدوحة وسلك خطابها طريق النصح والتحذير وذكرت المشاركين في المنتدى بأن دولتها التي لم تتخلّ لحظة عن مشروع الهيمنة بالإحتلال والقوة العسكرية وإستباحة حقوق شعوب المنطقة وقمع تطلعاتها نحو العيش بحرية وكرامة، إنما قامت (إسرائيل) على فكرة المزاوجة بين الثروة العربية (الخليجية) والعقل اليهودي، وما بينهما من أيدٍ عاملة عربية وافريقية وآسيوية فقيرة، وان ما يجري من صراع هو بين متطرفين من ضمنهم فلسطينيون، ومعتدلين من ضمنهم صنف آخر من الفلسطينيين، تحرص اسرائيل حسب زعم ليفني على مواصلة «التحدث» إليهم من اجل الوصول الى «تفاهمات».هكذا بشرتنا تسبي ليفي من الدوحة بانخراط دولتها في سياسة المحاور العربية عندما تحدثت بصيغة جمع المتحدث (نحن المعتدلين) عن «الآخرين المتطرفين» مستفيدة من واقع التشرذم والتخبط العربي ومن لحظة القلق التي يعيشها عرب الخليج على امنهم واستقرارهم بازاء «الاطماع الايرانية» بثرواتهم، وعلى ضوء توجسهم من المشروع النووي الايراني واستهدافاته الذي يغذيه الطرفان الاميركي والاسرائيلي.وما لم تخبرنا عنه الفضائيات والصحف العربية نقلته صحيفة هآرتس عن الزيارة الخاصة التي قامت بها ليفني الى مكاتب محطة الجزيرة وبحثها مع المسؤولين عن المحطة رفع الحظر الجزئي عن انشطتها داخل اسرائيل، والوصول الى «تفاهمات» جديدة مع الفضائية القطرية التي غيرت وجه العالم العربي منذ انطلاقتها وادارت نحوها الرؤوس اعجاباً بهذه «الجرأة» على تحدي المحظورات وكسر التابوهات التي كبلت الاعلام العربي وقوقعته في دائرة الخدمة والامرة المباشرة للحكام.فهل تنعكس زيارة الوزيرة الاسرائيلية لمحطة الجزيرة على ادارتها للمعركة الاعلامية، بما «ينصف» اسرائيل التي شعرت بـ«الغبن» في السنوات القليلة الماضية من انحياز محطة «الرأي والرأي الآخر» الى احد طرفي الصراع؟.
Leave a Reply