المهتمّون بالشأن العراقيّ وصلوا إلى استوكهولم لمناقشة الوضع في العراق بينما كان الرئيس بوش يُلقي خطابه أمام خريجي الأكاديميّة العسكريّة الجويّة في كولورادو، وفي الحدثين هنا وهناك تحدّث بوش ورايس عن عراق باعتباره منطقة موجودة فقط في خيال المتحدّثين وبعيدة بُعد النجوم عن الواقع الذي تعيشه ملايين النساء والأرامل والأطفال اليتامى والمعاقين الذين أفقدتهم حرب بوش الهمجيّة على بلدهم قطعة من جسدهم بعد أن أفقدتهم مليون شخص من فلذات أكبادهم كما أفقدتهم هناءة عيشهم وكرامتهم الشخصيّة والمهنيّة والوطنيّة. من يقرأ خطاب بوش بتمعّن يُدرك أنّه يعيش في عالم يتصوّر فيه أنّ مهمّته هي قتل الملايين من العرب من أجل تغيير أنظمة يعتبرها هو وحده خطراً على الولايات المتحدة ومن أجل ذلك يَعدّ العدّة ويطوّر الأسلحة ويشنّ الحروب ويغامر باقتصاد وأبناء الولايات المتحدة أيضاً. والسؤال هو من هم الأعداء الذين يُشير إليهم الرئيس بوش؟! يتحدّث عن محاربة الأعداء والخصوم في أيّ مكان في العالم ولكن ما هو تعريف العدوّ والخصم؟! ويقول أمام العالم: «حين يعلم الحكّام أنّنا نستطيع أن نضرب أنظمتهم وننقذ السكّان يدركون أنّهم لا يمكن أن يختبئوا خلف الأبرياء وهذا يعني أنّهم سوف يرتدعون عن خلق النزاعات في المكان الأول»، وإذا ما طبّقنا هذه المقولة على العراق وأفغانستان والصومال فهل يمكن للرئيس بوش أن يقول أنّه ضرب الأنظمة وأنقذ السكّان، الملايين من سكّان العراق وفلسطين وأفغانستان ولبنان والسودان يشهدون بأنّ بوش لوحده جعلهم يعيشون القتل والموت والتعذيب والترمّل واليتم والعوق والمرض والفقر حيثُ خلقت حربه على العراق لوحده أكثر من خمسة ملايين لاجئ عراقي وثلاثة ملايين يتيم وأكثر من مليون أرملة، فأيّ إنقاذ للسكان هذا الذي يتحدّث عنه الرئيس بوش «المتحضّر»؟ لو كان العراق مُعافى لماذا لا تُعقد مثل هذه المؤتمرات عن العراق في العراق، أم أنّ الموت الذي يواجهه العراقيّون كلّ يوم يجب ألا يبصره هؤلاء الذين بقراراتهم أتوا به إلى العراق ونثروه في كلّ قريّة ومدينة وحيّ شبحاً مرعباً يطارد العراقيين في كلّ لحظة ويدمّر أسس حياتهم الحاضرة وأحلام مستقبلهم ومستقبل أبنائهم؟ أم أنّ كلّ ما يقوله أعضاء الإدارة الأميركيّة حول العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال يجب أن يُقرأ من خلال منظور مَن تحرّروا من ضغط الإدارة الأميركيّة أمثال بريجنسكي وكارتر وغيرهم من الشخصيّات السياسيّة وآخرها سكوت مكليلان والذي كان متحدّثاً رسميّاً باسم البيت الأبيض من تموز عام 2003 وحتى نيسان عام 2006 والذي صدر كتابه «ماذا حدث: داخل بيت بوش الأبيض وثقافة الخداع في واشنطن» يشرح به كيف «ضلّل بوش أميركا والعالم حول الحرب على العراق» وكيف أنّ «الحرب على العراق لم تكن ضروريّة» وأن «اجتياح العراق كان خطأً استراتيجيّاً كبيرا». كذلك أعلن الرئيس السابق لجهاز مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، ريتشارد كلارك، بأنّ إبقاء القوّات القتاليّة الأميركيّة في العراق يساعد تنظيم القاعدة. وكان قائد القوّات الأميركيّة في العراق ريكاردو سانشيز قد كتب كتاباً أيضاً بعنوان «الأكثر حكمة في المعركة: قصة جندي»، شرح فيه مدى كذب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وغيره من كبار المسؤولين الأميركيين لتبرير أعمالهم القتاليّة وحروبهم وخاصّة حربهم على العراق. وأكّد ماكليلان أنّ بوش ومستشاريه قد خلطوا بين الدعاية ومستوى الصراحة والنزاهة كما اتهم ماكليلان اثنين من كبار مستشاري بوش السابقين، كارل روف ولويس ليبي، بأنّهما خدعاه من أجل أن يكذب بشأن دورهما في فضيحة تسريب اسم العميلة فاليري بلايم انتقاماً من زوجها جوزيف ويلسون الذي كشف الأكاذيب التي لفّقتها إدارة بوش عمداً حول شراء العراق اليورانيوم من النيجر لأغراض عسكريّة وقال ماكليلان: «روف وليبي شجّعاني على تكرار الكذبة مرّة بعد مرّة»، زاعماً أنّه لم يكتشف أنّها كذبة إلا بعدما بدأ الصحفيّون التنقيب عن الحقائق بعد عامين.
هكذا إذاً مصير ملايين الناس الأبرياء رهينة بأيدي عصابة من الطغاة والمخادعين والقتلة يسخّرون الأموال من دافع الضرائب الأمريكي والجهود الدوليّة برمّتها لشنّ حروب دمويّة همجيّة على العرب بذرائع باطلة وفاسدة لا مبرّر لها سوى الحصول على المزيد من السطوة والثروة. ومن خلال تسخير الآلات الإعلاميّة الضخمة «الحرّة طبعاً» لترويج الأكاذيب المصنّعة بأهداف محدّدة ومرسومة مسبقة أصبحت الحقيقة يتيمةً تبحث عن مخرج وسط هذا المحيط المتلاطم بالأكاذيب، والدعايات الخادعة الملفّقة، وتسويف الحقائق. بل أصبحت الحقيقة هي الوحيدة التي من الصعب جداً النطق بها حتى لكأنّ من يقول الحقيقة قد ارتكب جرماً وعليه أن يعدّ العدّة للدفاع عن نفسه! فهاهي جريدة التايمز البريطانيّة تقول في عددها الصادر 28 أيار 2008«إن جيمي كارتر محقّ أن يقول ما لا يمكن قوله» والذي لا يمكن قوله هو حقيقة امتلاك إسرائيل مئة وخمسين رأساً نوويّاً موجّهة ضدّ سكّان عشرات العواصم والمدن العربيّة بهدف إبادتهم. وكان كارتر قد نشر كتابه في عام 2006 بعنوان «فلسطين: السلام والتمييز العنصريّ»، والذي تسبّب في تعرّضه للابتزاز من قِبَل المجموعات المؤيّدة للاحتلال والاستيطان. كما أنّ زيارته للمنطقة ولقاءه بقادة حماس ودفاعه عن ضرورة التحدّث مع إيران وسورية قد أكسبه غضب مجموعات الضغط التي تدافع بشكل أعمى عن جرائم إسرائيل في لبنان والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. وها هو ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام، ورئيس لجنة تقصّي الحقائق التي شكّلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق بمجزرة بيت حانون عام 2006 والتي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي وكانت نتيجتها تسعة عشر شهيداً بينهم خمسة نساء وثمانية أطفال قضوا بنيران الدبّابات الإسرائيليّة بعد أن قُصِفَت منازلهم، ها هو يقول إن ما يشهده قطاع غزّة «أمر غير مقبول ويشكّل عاراً على الإنسانيّة». وكان قد سبق لأكثر من مسؤول من الأمم المتحدة من ماري روبنسون إلى من خلفها سيرجيو فيريرا دي ميلو أن أشاروا إلى «المأساة الإنسانيّة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني» إلاّ أن النتيجة كانت دائماً إقالة المسؤول من منصبه أو قتله «بشكلٍ غامض»!
ومهما يقول المسؤولون والمحقّقون الدوليّون فإنّ الحقائق تسير باتجاه والدعايات الملفّقة والأكاذيب تسير باتجاه آخر؛ ففي كلّ عام تُصدِر منظمة العفو الدوليّة تقريراً يُظهِر السجل القاتم للولايات المتحدة وأوروبا في حقوق الإنسان بينما تمعن الولايات المتحدة برفضها اعتبار تقنيّة الإيهام بالإغراق تعذيباً وتواصل التعذيب في غوانتانامو وأبو غريب وباغرام في أفغانستان وبالتأكيد في سجون مخابراتها السريّة. وإذا ما احتجّ أحد ضدّ امتناع إسرائيل والولايات المتحدة عن التوقيع على اتفاقيّة حظر القنابل العنقوديّة فإن التهم بمعاداة الساميّة جاهزة والتي تُلصَق بكلّ من يحاول تسليط الضوء على جرائم طغاة الأنظمة الديمقراطيّة ضدّ المدنيين الأبرياء في العراق وفلسطين ولبنان والصومال و… وكلما بحث أساتذة الجامعات البريطانيّة في مؤتمرهم السنويّ إمكانيّة قطع علاقاتهم مع الجامعات الإسرائيليّة، لدور هذه الجامعات في الكارثة الإنسانيّة التي تفرضها إسرائيل على غزّة، انبرت مجموعات الضغط وغيّرت القرار لصالح استمرار الجرائم والتنكيل بالفلسطينيين واحتلال أرضهم ومصادرتها. وها هي إسرائيل تُعلن دون وجل عن نيّتها هدم ثلاثة آلاف منزل في الضفّة الغربيّة تمهيداً لتحويل سكّانها العرب إلى لاجئين ومن ثمّ قتلهم أو طردهم من أراضيهم.
الاستنتاج الوحيد هو أنّ كبار أصحاب الأموال، وشركات السلاح والنفط، والشركات الدوليّة للإعلام يهدّدون العرب بالمزيد من الحروب والكوارث التي تُحقّق لهم ثروات أكبر ونفوذاً أعمّ وأشمل مستخدمين الدعايات الملفّقة، والأكاذيب لتبرير أعمالهم، متلبّسين لبوس المدافعين عن الحريّة والديمقراطيّة. وفقط بعد أن تحلّ الكارثة يستيقظ ضمير البعض ليكتب كتباً تدرّ عليه الأرباح ويبرّأ ضميره من جرائم ارتُكِبَت وحروب شُنَّت بينما يتحوّل المفكّرون والكتّاب والأكاديميّون إلى المدافعين الوحيدين عن الحقيقة في غابة من الدعاية الملفّقة والأكاذيب التي تودي بحياة ملايين البشر وتطعن بحريّة الإنسان وكرامته. من هنا فإنّ العراق يبدو جميلاً من استوكهولم والشرق الأوسط يبدو مشرقاً ومزدهراً طالما أنّ الطائرات الخاصّة تنقل المعنيين من رفاهيّة مكاتبهم في واشنطن إلى رفاهيّة الفنادق ذات السبع نجوم ولن يضيرهم أن يتحدّثوا بلغة تُظهر إنسانيتهم وأن يوزعوا ابتسامات تحاول تقريبهم إلى قلوب الجماهير. ولكن هناك وفي البعيد البعيد عنهم، في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال، جرائم ارتُكِبَت وما تزال تُرتَكب، ونفوس تُعدّ بالملايين قُتِلَت وما تزال تُقتَل وملايين أخرى تشقى، وتُعتقل، وتتعذّب، ويتمّ تدمير حياتها نتيجة سياسات الهيمنة المجنونة، والأكاذيب عن سعيها «لحماية السكّان» التي تحاول أن تقدّمها على أطباق مقبولة بل وحتى مغرية للبعض؟
Leave a Reply