حسن خليفة – «صدى الوطن»
الابتسامه الواسعة التي احتلت ثغر فتاة لاجئة صغيرة -وهي تعانق بفرح دمية جديدة أعطيت لها- يمكن أن تكون واحدة من أسعد لحظات حياة تلك الطفلة حتى الآن، تماماً كالشعور العارم الذي يختلج العاملين في «مؤسسة الحياة للإغاثة والتنمية» (لايف) بعد الامتنان الذي يلمسونه من آلاف الأشخاص المعوزين الذين قدموا لهم المساعدة خلال مسيرة هذه المؤسسة الخيرية المستمرة رغم التضييق والتمييز الذي تعرضت له.
في تسعينات القرن الماضي، أحسّ العرب الأميركيون الذين غادروا أوطانهم الأم بحثاً عن الأمن ولقمة العيش في المهجر، بألمٍ وحسرةٍ شديدين جراء الحروب التي اجتاحت أوطانهم ولا تزال تعيث فيها قتلاً ودماراً الى يومنا هذا. قرر حينها البعض التحرك، فأُنشئت العديد من المؤسسات الخيرية لمساعدة المحتاجين في أوطانهم الأم وكذلك في وطنهم الجديد الولايات المتحدة.
أحد هؤلاء المهاجرين، خالد ترعاني. ناشط إنساني يتميز بتمسكه بجذوره العربية وحماسته المتقدة للعمل الخيري، تابع بحزن تطورات حرب الخليج (١٩٩١) ونتائجها الكارثية على العراق وما أصابه من دمار وعقوبات اقتصادية خانقة.
![]() |
خالد ترعاني (إلى اليمين) متحدثاً إلى متطوعين في مكاتب «لايف» بمدينة ساوثفيلد |
لكن ترعاني الفلسطيني الأصل الذي كان قد هاجر حديثاً الى الولايات المتحدة، قرّر -مع آخرين من أبناء الجالية- التحرّك لإغاثة أبناء العراق الجريح، فوجد ضالته في مؤسسة «الحياة للإغاثة والتنمية»، (لايف) وهي منظمة خيرية انسانية، تأسست في منطقة ديترويت عام ١٩٩٢ وكرست نفسها لتقديم المساعدات للعراقيين الذين دُمرت منازلهم، وتوفير الرعاية الطبية للمرضى في بلاد الرافدين.
من العراق إلى هايتي إلى العالم
وإذا كانت مساعدة سكان محتاجين على بعد ستة آلاف ميل عملية صعبة ومعقدة، فإن المساعدات التي قدمتها «لايف» خلال مسيرتها حتى اليوم تستحق فعلاً الثناء، خاصة وأنها شملت إطعام الجياع، وبناء المدارس والعيادات الطبية وتوفير الأدوية لعدد لا يحصى من الأيتام والأسر والمرضى في عشرات البلدان بمختلف أنحاء العالم.
لم تكن هذه نية ترعاني في الأصل، ولكن بعد أكثر من عقدين من الزمن، وفّرت «لايف» أكثر من 300 مليون دولار بشكل مساعدات للمحتاجين في بلدان مثل أفغانستان، غانا، لبنان، سوريا، الأردن، هايتي، باكستان، سيراليون، فلسطين، وبطبيعة الحال، الولايات المتحدة، وتحديداً ميشيغن.
وتوسع نطاق عمل «لايف» الخيري خارج العراق لأول مرة عام ٢٠١٠، حين ضرب زلزال مدمر جزيرة هايتي موقعاً خراباً هائلاً مما دفع المؤسسة الى تحمل واجبها الإنساني والبدء بإرسال المساعدات الى الجزيرة المنكوبة، حيث لاحظ ترعاني وجود مجموعة من الأيتام لم يتبناهم أحد فقرر أن لا يدير لهم ظهره فقامت «لايف» ببناء دار للأيتام يضم 54 طفلاً.
وفي سيراليون، البلد الفقير الواقع في غرب إفريقيا، شهد ظروفاً مشابهة فقررت «لايف» المساعدة هناك أيضاً.
ويقول ترعاني الذي يرأس المنظمة حالياً، إنه مع البدء بتقديم المساعدات الإنسانية في منطقة ما، «تجد نفسك تغرق رويداً رويداً في ذلك المجتمع لدرجة أنك لا تقوى على تركه وحيداً».
لحسن الحظ، تدفقت التبرعات السخية النقدية والعينية للمؤسسة، ودفع الإقبال على العطاء «لايف» الى تنويع المناطق التي توفر لها المساعدات.
اليوم، تبلغ ميزانية «لايف» حوالي ٦٠ مليون دولار تتلقاها من المتبرعين من جميع أنحاء العالم وأغلبيتهم الساحقة من أصول عربية. وبفعل نشاطاتها الخيرية حول العالم مُنحت «لايف» عضوية استشارية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، بعد التحقق من شفافية عمل المؤسسة والتدقيق المالي بحساباتها.
وتفتخر المؤسسة الخيرية بحصولها على تصنيف ثلاث نجوم (من أصل أربع) وفق مؤشر «تشاريتي نافيغايتر» الذي يصنف المنظمات الخيرية وفق حجم المساعدات المقدمة، ونسبتها من مجموع التبرعات التي تتلقاها.
مهمة صعبة
التبرع بالأغذية والملبوسات والأثاث المنزلي للأسر المحتاجة هو عمل إيثاري بامتياز، ولكن مهمة «لايف» بإيصال تلك المساعدات الى قلب مناطق النزاعات والكوارث ليست نزهة على الإطلاق. ويشير ترعاني الى «أن الطائفية والعقبات السياسية تصعِّب أكثر فأكثر من عملية نقل المساعدات الى مناطق الصراع. ففي العراق أصبح العمل مستحيلاً تقريباً».
وفي الآونة الأخيرة، استغرقت شحنة مساعدات طبية بقيمة مليوني دولار أربعة أشهر للوصول إلى اليمن، بسبب «غياب القانون وتعقيدات السياسة» في المنطقة المنكوبة، بحسب ترعاني.
أما في دمشق، وقبل ساعة من بدء المتطوعين بتوزيع المساعدات على السكان المحتاجين، انهمرت القذائف على سيارات المنظمة التي كانت متوقفة هناك طوال الليل. وقد لقي مدنيان مصرعهما نتيجة ذلك.
وكونها منظمة غير سياسية، تسعى «لايف» إلى الالتزام بتقديم المساعدات للمحتاجين بغض النظر عن المذهب أو الدين أو المنطقة الجغرافية.
«ففي نهاية المطاف، الشخص الذي يعرقل جهود «لايف» لتوفير حاوية من الأدوية كمساعدات، قد يصبح هو نفسه بحاجة الى هذا الدواء عندما لا يكون متوفراً».
الأيتام والأطفال المحتاجون
رؤية صبي صغير يتملّكه الذهول بعد تمكَّنه لأول مرة من سماع صوت ما، مشهدٌ يصعب وصفه.
لكن المشاركين في وفد ضم 35 متطوعاً من «لايف» و20 أخصائياً في السمع، إضافة الى طبيبين (باختصاص أذن-أنف-حنجرة)، لا شك أنهم قادرون على توصيف هذا المشهد بشكل أفضل، بعد الخبرات التي اكتسبوها في رحلتهم الإنسانية الى الشرق الأوسط.
«مفجع، لكنه يمد بالعزيمة» وصفت إحدى المتطوعات شعورها في شريط فيديو أنتجته «لايف».
بالتعاون مع شركات مصنعة للمعدات الطبية، تمكنت «لايف» من إهداء حاسة السمع لآلاف الأطفال في منطقة الشرق الأوسط حيث تم توزيع مئات أجهزة السمع للمحتاجين بقيمة ٦٠٠ ألف دولار.
«كانت هذه مشيئة الله» قال ترعاني، موضحاً موقف أب لأربعة أطفال، بالكاد كان يجني 1000 دولار شهرياً، أي مايعادل تكلفة جهاز سمع واحد.
وفي حين ساعدت «لايف» آلاف الأطفال على استرداد القدرة على السمع، عملت أيضاً على توفير المأوى والتعليم لآلاف آخرين، حوالي 5500 على وجه الدقة.
وسمح التعاون بين «لايف» ومنظمات خيرية محلية في بلدان مثل العراق والأردن وليبيا واليمن، بإقامة عيادات صحية ودور للأيتام ومدارس للأطفال الفقراء.
ففي العراق، يتلقى أكثر من 600 طفل المأوى والغذاء والمياه النظيفة والتعليم والرعاية الصحية، بفضل جهود المنظمة. كما توفر «لايف» أجهزة ومعدات للعيادات، مثل آلات الأشعة السينية والكراسي والطاولات وأدوات التشخيص.
ويؤكد ترعاني أن لدى «لايف» قاعدة بيانات واسعة للأيتام، وكثير منهم لديهم كفلاء.
وأضاف أن «الكفلاء لديهم خيارات مفيدة للتواصل مع الأيتام من خلال إرسال الأموال شهرياً أو إرسال الهدايا والعيديات أو اللوازم المدرسية». لافتاً الى أن ابتعاد الأطفال عن خطر الموت بالحروب لا يعني أنهم يعيشون حياة طبيعية.
وأردف بأن الأطفال في المناطق المضطربة يعانون من سوء التغذية؛ «بعضهم بالكاد يستطيع الوقوف بسبب عدم وجود ما يكفي من الطعام». و«خلال فصل الشتاء، ليس لديهم ما يكفي من ملابس ليقيهم البرد القارس». لذا تقوم «لايف» بتسليم وقود الديزل لبعض المدارس بهدف توفير الحد الأدنى من التدفئة في الفصول الدراسية. علماً بأن تكلفة التدفئة للمدرسة الواحدة تقدر بحوالي 1000 دولار شهرياً بسبب قدم أجهزة التدفئة هناك.
وأستذكر ترعاني في حديثه الى «صدى الوطن»، قصة سمعها من أحد المعلمين حول تلميذ كان يوبخه دائماً لعدم قيامه بواجباته المدرسية. وفي إحدى المرات أحضر الصبي وظيفته إلى الصف مكتوبةً على كيس من الورق لأنه لم يكن قادراً على شراء دفتر.
خلص ترعاني الى القول «القلب ينخلع عندما ترى كيف يعيشون والظروف التي يتحملونها».
مساعدات محلية
في وقت مبكِّر من أيلول (سبتمبر) الماضي، أعلنت الولايات المتحدة عن استقبال أكثر من ١٠ آلاف لاجئ سوري على أراضيها، وكانت حصة ميشيغن منهم حوالي ١٤٠٠. وقد نشرت «صدى الوطن» تقريراً عن الصعوبات التي تواجهها المنظمات الخيرية لتلبية احتياجات العائلات اللاجئة في منطقة ديترويت.
وتقدم الحكومة الأميركية إعانة للاجئين، بما في ذلك الغذاء والمسكن، لمدة ثلاثة أشهر فقط. وبعد ذلك، يُتوقَّع منهم أن يصبحوا مستقلين ذاتياً.
وفي حين أن معظم جهود «لايف» الخيرية تنصبّ خلف البحار، إلا أن ترعاني يؤكد أن المؤسسة هي واحدة من المنظمات الخيرية الناشطة محلياً.
ويستذكر ترعاني الذي هاجر الى الولايات المتحدة وهو في العشرين من عمره، الصعوبات التي اختبرها شخصياً للتأقلم في وطنه الجديد، وفي مقدمتها تعلم اللغة الإنكليزية دون مساعدة من أحد. واستطرد قائلاً بأن العثور على عمل وايجاد وسيلة نقل يشكلان معضلة حقيقية للاجئين السوريين في ميشيغن. ولهذا السبب منحت «لايف» 20 سيارة للاجئين تم اختيارهم وفق معايير محددة.
ومن بين الجهود المحلية العديدة التي بذلتها «لايف»، الاستجابة لأزمة تلوث مياه فلنت حيث وزعت المنظمة حوالي ٢٠٠ ألف عبوة مياه لسكان المدينة، وتحديداً في المجتمعات الفقيرة من الأفارقة واللاتينيين الأميركيين.
كذلك في السنوات الأخيرة، دأبت «لايف» بالشراكة مع مراكز إسلامية محلية بتوزيع المواد الغذائية والمعاطف الشتوية في ديترويت بمناسبة العيد.
كما قامت «لايف» مؤخراً رعاية برنامج لتمكين المرأة في ولاية فرجينيا، عبر تدريب النساء المحتاجات على الخياطة لمدة ستة أشهر، إضافة الى مهارات أخرى.
ويقول ترعاني في هذا السياق «إننا نحاول أن نتخطى ما هو تقليدي واعتيادي في مجال تقديم المساعدات الاجتماعية».
انتكاسة
وعلى الرغم من جهود «لايف» خيرية، أقدم مصرف «بنك أوف اميركا» في عام 2012 على إغلاق حساب الشركة لديه، بشكل مفاجئ ودون إبداء أية أسباب.
وتقدم محامو المؤسسة بدعوى قضائية أمام محكمة ديترويت اتهموا خلالها البنك بالتمييز العنصري ضد المؤسسة بسبب الأسماء العربية لمسؤوليها، والخطاب المعادي للعرب والمسلمين الذي أدى إلى إغلاق المئات من حسابات العرب الأميركيين من قبل العديد من المصارف الأميركية على مدى العقدين الماضيين.
غير أن هيئة محلفين من ستة أعضاء حكمت لصالح البنك مخلية ساحته من تهم التمييز العنصري.
من جانبه، انتقد ترعاني القيود الصارمة التي تفرضها الحكومة الفدرالية على الجمعيات الخيرية والتي تصعّب القيام بعملها في الخارج.
ومسشهداً بتقرير صادر عن منظمات الحقوق المدنية بعنوان «الكراهية نفسها وهدف جديد: الإسلاموفوبيا وتأثيرها على الولايات المتحدة»، أكد ترعاني أن صناعة الإسلاموفوبيا تنفق أكثر من 100 مليون دولار سنوياً على الدعاية المعادية للإسلام وللعرب. وتابع «هذا يؤدي للإحباط الشديد الذي يعيق عملنا، لأننا نعرف أن هناك الكثير الذي يمكننا القيام به».
لكن ترعاني المصمم على مواصلة مسيرة «لايف» الإنسانية ختم بالقول إن «الرد على الهزيمة القانونية التي تعرضنا لها يكون بمواصلة وتوسيع عملنا الخيري، بهدف رفع مستوى الحياة في المجتمعات المحرومة».
للتبرع يمكن زيارة موقع «لايف» الإلكتروني: lifeusa.org
Leave a Reply