بيروت – تتلبد الأجواء في سماء لبنان، وبات القلق يخيم على اللبنانيين، من انفجار الوضع الأمني، والدخول في اقتتال داخلي، وأكثر ما أخافهم إعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي اشكنازي، أن لبنان سيشهد توتراً خلال شهر أيلول المقبل، على خلفية صدور القرار الظني في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتوجيه الاتهام الى عناصر من “حزب الله”.
هذا التهديد الإسرائيلي، تزامن مع تصريح لرئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي توقع وقوع اغتيالات وتفجيرات في لبنان، حيث توقف النائب وليد جنبلاط عند هذا التزامن في التصريحين، وهو ما دفع بالنائب العماد ميشال عون، الى التخوف من أن تقوم إسرائيل بعدوان على لبنان، يلاقيها أطراف في الداخل يوترون الوضع الأمني.
فهذه المواقف التي تصدرت شهر تموز الماضي، كانت قد سبقتها تسريب معلومات من أن المحكمة الدولية ستستند في قرارها الظني على ما ورد في تقرير مجلة “دير شبيغل” الألمانية، وهو ترداد لما كان صدر في صحف “الفيغارو” و”لوموند” الفرنسيتين و”السياسة” الكويتية، والأخيرة، والتي كانت وبعد أيام قليلة على وقوع جريمة اغتيال الحريري، قد نشرت أسماء وصور الضباط اللبنانيين والسوريين الضالعين في عملية تفجير موكب الحريري، حيث بدأت بعدها بتلفيقات وروايات كانت تزودها بها غرفة سوداء سياسية–إعلامية أمنية، وهي التي فبركت الشهود الزور، الذين أدلوا بشهادات كاذبة ومن أبرزهم محمد زهير الصديق الذي أسقطت المحكمة الدولية شهادته.
فالأخبار المفبركة، التي روجت لها جريدة السياسة، جاءت “دير شبيغل” على لسان مراسلها إيريك فولاث في 23 أيار 2009، ليقدم تقريراً ذكر فيه، أن عناصر من “حزب الله” متهمة باغتيال الحريري، وأن التوصل إليهم تم عبر رصد اتصالاتهم الهاتفية، وسمى في مقاله أحدهم عبد المجيد غملوش، وتحدث عن أن أحد عناصر الحزب ألقى القبض عليه في العراق على يد قوات الاحتلال الأميركي، واعترف بمشاركته في الجريمة.
وما أوردته “دير شبيغل” جاء بعد ثلاثة أشهر من إعلان قيام المحكمة، كما أن روايتها تطابقت مع رواية سابقة كان نشرها موقع “الحقيقة” الذي يديره المعارض السوري نزار نيوف في 24 كانون الأول 2008، ونسب معلوماته الى مسؤول قانوني كبير من مؤسسي المحكمة وواضعي نظامها، وقد رسم هذا الموقع خارطة طريق لإدانة عناصر من “حزب الله”.
وألمح الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، الى أن القرار الظني كان سيصدر في العام 2008، وهو العام الذي أخذت فيه حكومة فؤاد السنيورة قرارها في 5 أيار، بتفكيك شبكة اتصالات المقاومة التي ردت عليه في 7 أيار وأسقطته، وغيّرت التوازن الداخلي بفرض انتخاب رئيس جمهورية توافقي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو ما أخّر إصدار تقرير عن لجنة التحقيق الدولية برئاسة دانيال بلمار.
كانت التهمة في البداية على سوريا وقيادتها وضباط فيها، بمشاركة الضباط الأربعة الذين كانوا ممسكين بالأمن اللبناني، وقد زج بهم في السجن حوالي أربع سنوات، كما أن التسريبات كانت تتحدث عن ضلوع وزراء من حكومة الرئيس عمر كرامي في الجريمة، وكانوا على علم بها، بدأ التداول بأسماء من ستستدعيهم المحكمة الى لاهاي، وقد تساقطت كل الروايات المفبركة، بعد أن تهاوى شهود الزور وبدأت تنفضح ألاعيبهم ومن يقف وراءهم من سياسيين وأمنيين وإعلاميين لبنانيين، وبات معلوماً لدى الرأي العام أن أشخاصاً معروفين، ويحتلون مواقع، قد استدرجوا الصديق وإبراهيم جرجورة وهسام هسام وأكرم مراد وغيرهم، وتم تلقينهم ما سيقولونه للجنة التحقيق، من أجل توريط مسؤولين وسياسيين سوريين ولبنانيين، وقد أقام اللواء جميل السيد دعاوى عليهم في سوريا وفرنسا وإسبانيا ودول أخرى، وقد ذهب الى المحكمة الدولية في لاهاي يطالبها بالمستندات من أجل أن يتابع دعاويه أمام المحاكم التي اشتكى إليها، وهو سمى كلاً من: مروان حمادة، العقيد وسام الحسن، فارس خشان، هاني حمود وغيرهم ممن شاركوا في تلفيق الشهادات ضده وضد زملائه الضباط.
فجريمة اغتيال الحريري حصلت من أجل تفجير لبنان وزج اسم المقاومة فيها لإدخالها في صراع داخلي، سيكون عنوانه مذهبي، حيث ظهرت ملامح الفتنة السنية–الشيعية منذ اللحظات الأولى للاغتيال، بعد أن بدأ الترويج بأن السيارة جرى تفخيخها في الضاحية الجنوبية، وأن المخططين التقوا في شقة بحي معوض، وقد ساق هذه المعلومات الصديق الذي روى أكثر من رواية حول الاغتيال، وأكدت لجنة التحقيق برئاسة سيرج برامرتز عدم صحتها وصدقتيها، وذهبت بالتحقيق الى مكان أخر، وهو احتمال أن تكون قوى إسلامية أصولية وراء التفجير، بعد أن ثبت أن أصوليا كان يقود سيارة الفان “الميتسوبيتشي” وتمّ اعتقال ما سمي بمجموعة 13 التي اعترف أحد أعضائها السعودي فيصل أكبر بأنه هو من حضّر “أبو عدس” مع خالد طه، الفار من وجه العدالة وتمّ اغتيال الحريري، وابتعد الاتهام عن سوريا التي تعاونت مع التحقيق، وأرسلت ضباطاً للشهادة في جنيف، كما لم يكن وارداً اسم “حزب الله” أو عناصر منه في أي تحقيق، حتى صدور تقارير صحفية، بدأت تلمح مع نهاية العام 2008، الى مشاركة أفراد من الحزب بالجريمة، ولم يكن أي عنصر منه، استدعي الى التحقيق، وقد تعاطت قيادة الحزب مع هذا الموضوع على أنه تسريبات صحافية، بعد أن تبين بطلان ما ورد حول الجريمة سابقاً من أخبار صحافية، الى أن بدأت جهات دولية وإقليمية وأخرى عربية تتعاطى مع المعلومات المسربة الى “دير شبيغل” ومجلات أخرى على أنها وقائع، فبدأ “حزب الله” يقلق مما يدبر، وكان أول من تصدى لذلك رئيس “تيار التوحيد” وئام وهاب وهو من قال أن القاضي دانيال بيلمار سيكون أسوأ من المحقق الألماني ديتليف ميليس الذي أوصى بزج الضباط الأربعة في السجن، وأن إطلاق سراحهم من قبل المحكمة الدولية، التي برأتهم من الاتهامات أو الشبهات التي سيقت ضدهم، ولم تكن موثوقة أو مسندة الى أي دليل سينقل الاتهام الى مكان آخر، فكان التخوف من أن الفيلم الأميركي–الإسرائيلي، سيكون عن “حزب الله” وسيوضع سيناريو لاستهدافه، وأن المطلوب رأس المقاومة، التي هزمت إسرائيل في العام 2000، وحررت الأرض اللبنانية المحتلة، واستمرت تطالب بتحرير ما تبقى من أرض محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من مدينة الغجر، مما أبقى سلاحها لاستكمال تحرير الأرض والأسرى والدفاع عن لبنان، مع استمرار الخطر الصهيوني وأطماعه في الأرض والمياه، بالتنسيق مع الجيش اللبناني.
هذا السلاح الذي قال قادة اسرائيل، أنه زاد لدى المقاومة، بعد التحرير، أرادت إسرائيل أن تحرف وجهة استخدامه بأن يتجه الى الداخل مع صدور مواقف، تطالب بتسليم المقاومة سلاحها الى الدولة، وأن التحرير حصل، ولا حاجة لوجوده، كما لم تعد من ضرورة للوجود العسكري والأمني السوري في لبنان، الذي كانت الحكومات المتعاقبة تؤكد أنه شرعي وضروري ومؤقت، وأن الطائف ربط خروج الجيش السوري بالانسحاب الإسرائيلي الذي تم في 25 أيار 2000.
فالمقاومة التي استعصت على إسرائيل، كان لا بد من زج مجلس الأمن الدولي ضدها، فصدر عنه قرار حمل الرقم 1559، وقد صنعته أميركا وفرنسا، وأكد على انسحاب القوات السورية ونزع سلاح المقاومة، وظهرت روائح مؤامرة على لبنان ومقاومته، وكان لا بد من حدث كبير، ليتم تنفيذه، فكان اغتيال الحريري، الذي وقف ضده ونبه من خطورته، وقد ربطت تقارير لجنة التحقيق الدولية بين القرار المذكور والاغتيال، مما يشير الى أن من يقف وراءه هي إسرائيل ودول حليفة لها، تريد تطويع سوريا للسير معها في عدم دعم المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وهي الشروط والمطالب التي نقلها وزير الخارجية الأميركي كولن باول الى الرئيس بشار الأسد في أيار 2003، ولم يستجب لها، فكانت العقوبات على سوريا والقرار 1559، الذي نفذته سوريا من جانبها، وبقي موضوع المقاومة، التي تدخلت إسرائيل مباشرة لإنهاء وجودها عبر الحرب صيف 2006، وفشلت، فكان السيناريو الجديد، وهو العودة الى سوريا من قبل أميركا وحلفائها سواء في الغرب أو من الدول العربية المعتدلة، لفك ارتباطها بإيران وبالتالي وقف نقل السلاح الى “حزب الله” ومحاصرته، لكن الرئيس الأسد، تصدى لهذه الرغبات، وزاد من تلاحمه مع المقاومة، التي تصدت لمؤامرة جديدة عليها في مطلع أيار 2008، باستهداف شبكة اتصالاتها، وتمكنت مع حلفائها في المعارضة من إسقاط المشروع الأميركي وأدواته اللبنانية، فكانت المحكمة هي الطريق الجديد التي تصل الى رأس المقاومة، باستصدار قرار ظني أو اتهامي يستند في مضمونه على اتصالات هاتفية مخروقة إسرائيلياً عبر عملاء يعملون في الشركتين المشغلتين للهاتف الخلوي، تم تزويدها بمعلومات من قبل جهاز أمني لبناني، يكشف عن اتصالات بين عناصر من الحزب كانت تتابع عملية الاغتيال، وأن هذه المجموعة مرتبطة بالشهيد عماد مغنية، الذي اغتالته أدوات إسرائيلية في دمشق، حيث بدأ الترويج ومنذ اغتياله في شباط 2008، أنه الشخص الذي يقف وراء عمليات الاغتيال والتفجير في لبنان.
هذه التسريبات نفاها “حزب الله” ودحضها واعتبرها مسيئة الى المقاومة وقياداتها وشهدائها، ورأى فيها أنها محاولة إسرائيلية للإيقاع بالمقاومة، ولقد تصدى لها السيد حسن نصرالله الذي فوجئ بالرئيس سعد الحريري يكشف له عن أن قراراً ظنياً سيصدر عن المحكمة وسيتهم عناصر اعتبرها غير منضبطة، وقد يكون متطابقاً مع ما صدر في “دير شبيغل”، ورد قائد المقاومة عليه فوراً، لا أقبل مثل هذا الحديث، وأن أي عنصر في الحزب ليس متهماً، ويجب أن نفكر نحن وإياك قال نصرالله للحريري، كيف يمكن مواجهة مؤامرة زج اللبنانيين باقتتال فيما بينهم وتوريط السنة والشيعة في صراع مذهبي.
أظهر الحريري أمام السيد نصرالله أنه كان حريصاً على عدم وقوع الفتنة، وقد أعلن في المؤتمر التأسيسي لـ”تيار المستقبل” أن روح والده لا تقبل الفتنة، وهذا توجه إيجابي ووطني، والتصدي لما يحاك للبنان، ولكن على خلفية أن “حزب الله” بريء، وليس التسليم بقرار مشبوه مفبرك، يعرف مضمونه اشكنازي وقادة العدو، ويهددون بأيلول أسود في لبنان، إذ أن قبول رئيس “تيار المستقبل” بالمزاعم التي تطبخ في مطابخ دولية وإقليمية وحتى عربية ضد المقاومة، فمعنى ذلك أنه موافق عليها وهي نفسها الأضاليل التي سار هو وفريق “14 آذار” وراءها باتهام سوريا وحلفائها في لبنان، وقد سقطت دون أية مراجعة نقدية لهذه المرحلة التي أدخلوا لبنان فيها في أتون حرب أهلية، كادت أن تودي باللبنانيين الى دمار بلدهم، وهم يحاولون تكرار التجربة نفسها مع المقاومة، التي قررت الدفاع عن نفسها، لأنه إذا لم يدرك الحريري وحلفاؤه ما يدبر للبنان، فإن الأتي أعظم كما قال جنبلاط، وأن حرباً أهلية مدمرة ستقع أفظع مما حصل في فتنة العام 1975، كما أعلن سليمان فرنجيه، والعماد عون كشف ما قد يواجه اللبنانيين من سيناريو تدخل فيه عناصر إسلامية أصولية، لتواجه “حزب الله” فيدخل لبنان في “العرقنة”، وعندها يصح ما تنبأ به اشكنازي من أن أيلولاً أسود ينتظر اللبنانيين، فهل يعون مخاطره ويمنعون وقوعه، بوحدتهم، إلاّ أن هناك من يراهن أن ينتهي سلاح المقاومة باستدراجه الى الداخل، ويتحول الى سلاح مذهبي إرهابي، وهو ما تريده اسرائيل، التي وللأسف فإن في الداخل من يلاقونها ويستقوون بها تعيد العدوان من جديد، لعلهم يظفرون برئاسة جمهورية على غرار العام 1982 وتجربة بشير الجميل…
Leave a Reply