محمد العزير
أيام كانت الملكية هي النمط السائد للحكم في العالم وكان التاج يملك ويحكم، خصوصاً في أوروبا التي أتقنت تحويل البلاط إلى امتداد لسلطة الله المطلقة على الأرض، كان خلو العرش يطرح على الفور أسئلة الخلافة التي كانت في معظمها دامية ومهولة وتركت ندوباً لا تزال شعوب القارة تعاني من تبعاتها إلى اليوم، لاسيما في بريطانيا التي ودعت ملكتها طويلة العمر إليزابيت الثانية، والتي تواجه اليوم سؤالاً مختلفاً تماماً لا يتعلق بالوراثة المحسومة، والتي لم تعد مثار قلق، وإنما يتجاوز ذلك إلى مصير التاج نفسه وقدرة عائلة ويندزور على حماية سحر الهيبة والشهامة والسمو الذي أصبح الحصن الأخير للنمط الأرستقراطي في عالم يتغير بسرعة فائقة.
يختلف السؤال عن مصير الملكية اليوم عما كان عليه في إنكلترا نفسها التي شهدت أول ثورة تطيح ملكاً (تشارلز الأول) عام 1647، وتحاكمه وتعدمه في لندن بعد سنتين لتبقى تائهة لسنوات مع خصمه أوليفر كرومويل وبعده بين تجارب جمهورية وإقطاعية أفضت بعد عشر سنوات من العقم الشرعي إلى إعادة الملكية وتتويج ابن الملك (تشارلز الثاني) عاهلاً ليعيد انتظام الحياة العامة التي لم تكن تعرفت بعد إلى أي بديل. كما يختلف عنه يوم أطاحت الثورة الفرنسية عام 1789، بالملك لويس السادس عشر وأعدمته وأعدمت زوجته ماري أنطوانيت، وعاشت مع ماكسميليان روبيسبيير واليعاقبة، سنوات الرعب التي أفضت إلى عودةٍ أقوى للنظام الملكي مع نابليون بونابرت، أو الثورة البلشفية التي أطاحت القيصر الروسي إبّان الحرب العالمية الأولى عام 1917، وفتحت الباب أمام انهيار الامبراطوريات النمساوية والألمانية والعثمانية.
عندما شاءت الأقدار أن تضع الأميرة الصغيرة إليزابيث على سكة الوراثة عام 1936، بعدما اعتلى أبوها جورج السادس، العرش خلفاً لأخيه إدوارد الثامن الذي اختار التنازل عن التاج بدل التخلي عن زواجه من السيدة المطلقة واليس سمبسون، كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ويعيش تحت علمها حوالي نصف سكان العالم، وعندما اعتلت إليزابيث العرش عام 1952، بعد سبع سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الإمبراطورية قد ضمرت بعد خروجها من الهند وشرق آسيا ولم يتبق تحت سيادتها، سوى 32 دولة، لكن الانحسار المتسارع للاستعمار جعلها تشهد إنزال علم الاتحاد ونزع صورها كرمز للسيادة في 17 دولة منها من نالت استقلالها الناجز وأبرزها الباكستان وكينيا وجنوب أفريقيا وسريلانكا وأوغندا، كما أُلغيت في عهدها معاهدات الحماية مع اليمن الجنوبي ودول الخليج العربي. وآخر الدول التي خرجت عن السيادة البريطانية كانت بربادوس التي تخلصت من النظام الملكي خريف العام الماضي. واجهت اليزابيث الثانية الموجة الإستقلالية العارمة بإيجابية وتفاعل وحرصت على لعب دور أساسي في الإبقاء على علاقات ودية مع الدول المستقلة حديثاً سواء عبر إقناعها بالانضمام إلى الكومنولث، أو بالحرص على زيارتها بعد الاستقلال، ولعل زيارتها إلى غانا عام 1961، هي الأشهر حين أصرت على إتمام الزيارة والتجول في العاصمة أكرا على الرغم من تحذيرها أمنياً من مخاطر تعرضها لمحاولة اغتيال، وتحذيرها سياسياً من مغبة اللقاء مع الرئيس كوامي نكروما الذي حل محلها كرمز سيادي للدولة وقرر الانفتاح على المعسكر السوفياتي وكان عائداً للتو من زيارة إلى موسكو، ونجحت في تقديم نفسها كزعيمة شجاعة وحيوية وهو ما تكرر بعد ثلاث سنوات في كندا حين أصرت على زيارة مقاطعة كيبيك الفرنسية الهوى، رغم التحذيرات والتظاهرات وأعمال الشغب، الا أن أبرز مواقفها كان في العام 1981، حين أطلق الشاب ماركوس سارجينت (17 سنة) من مسافة قريبة ست طلقات نحوها بينما كانت تعتلي صهوة جوادها في مسيرة استعراض الراية في لندن، فتصرفت برباطة جأش وأريحية أكسبتاها الكثير من الثناء والإشادة.
هذه المزايا والمواقف جعلتها موضع احترام وإعجاب الكثيرين خصوصاً في بريطانيا، وساعدتها كثيراً في مواجهة تداعيات انفصال كنّتها الليدي ديانا الزوجة الأولى، لولي العهد في حينه، تشارلز، ثم طلاقها منه عام 1992، وموتها في حادث سير مروّع في فرنسا مع صديقها المصري الأصل عماد الدين (دودي) الفايد عام 1997، والذي حمّلت الصحافة الصفراء والكثير من الشخصيات الإعلامية والفنية المؤثرة مسؤوليته لقصر باكنغهام ولا يزال مصدراً خصباً لشتى أنواع نظريات المؤامرة، وكذلك في مواجهة مضاعفات زواج حفيدها الأمير هاري من الخلاسية الأميركية ميغان ماركل عام 2018، وإعلانهما التخلي عن امتيازاتهما الملكية بعد عامين سرت خلالهما وتبعتهما تقارير ومقالات عن تعرض ماركل لإزعاجات ذات طبيعة عنصرية من قبل أفراد العائلة المالكة.
اليوم يعتلي تشارلز الثالث العرش وبريطانيا تواجه تحدياً حقيقياً لديمومة السلطة السيادية للتاج فيما تبقى من دول تابعة له، والأهم ديمومة وحدة المملكة المتحدة نفسها بعد التصويت على خروجها من الاتحاد الأوروبي عام 2016. فعلى الجبهة الداخلية سيكون على لندن حبس أنفاسها بانتظار التاسع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حين يتوجه سكان اسكتلندا إلى صناديق الاقتراع للتصويت في استفتاء على الاستقلال عن بريطانيا ويخشى المراقبون من أن تكون الثالثة ثابتة وتأتي النتيجة مغايرة للاستفتاءين السابقين اللذين سقطا عامي 1979 و1997، لكن هذه المرة يبدو أن المعطيات قد تغيرت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعد نجاح الحزب الوطني الاسكتلندي وحزب الخضر الداعمَين للاستقلال بأغلبية مريحة في آخر انتخابات تشريعية جرت العام الماضي. إذا حاز الاستفتاء على الموافقة، ينتهي الاتحاد الذي استمر 315 سنة.
أما حركة إلغاء الملكية برمتها كنظام حكم دستوري فهي اليوم أنشط من أية فترة سابقة في بريطانيا نفسها حيث يضع حزب العمال منذ العام 1991 مشروع التحول إلى نظام جمهوري في برنامج عمله بدعم من الجناح اليساري فيه، كذلك الأمر في أستراليا التي تحظى حركة الإلغاء فيها بتأييد عابر للأحزاب كما هو الحال في نيوزيلندا.
أما في كندا –كبرى دول التاج البريطاني– فلا يزال الانقسام التقليدي بين الثقافتين الفرنسية والإنكليزية مانعاً لنفاذ الحركة عبر الأحزاب. وحدها بابوا غينيا الجديدة في المحيط الهادئ مجمعة على ديمومة التاج.
في هذه الأجواء سيكون على تشارلز الثالث استحضار الكثير من مزايا والدته لينجح بالحفاظ على العرش، لكن مشكلته الكبرى أنه جزء من المشكلة، وسيكون هدفاً سهلاً للصحافة التي لن تنسيه أن كاميليا، الملكة التي تجلس إلى جانبه اليوم، امرأة مطلقة لديها ولدان من زواجها السابق، وكانت السبب في شقاء ديانا، فهل ينجح؟
Leave a Reply