كان نجيب حنكش نسخة معاصرة وخفيفة الظل لكل من سبقوه من ذوي الدم الخفيف، وكان يلقي نكاته اللطيفة وقفشاته الطريفة دون سماجة وفظاظة كما يحصل مع مقدمي نكات هذه الأيام. من بين نكاته المفضَّلة بالنسبة لي حكاية الزحلاوي الذاهب إلى الكروم في وادي العرايش.
مر الزحلاوي في الطريق بصديق له يغسل هرته بشدة، فقال له محذراً: «على مهلك فقد تقتلها من شدة الغسل»، فأجاب الصديق هازئاً: «هل الغسيل يقتل؟». ولما عاد الرجل من الكروم رأى الهرة ميتة ووجد صديقه يبكيها، فقال له: «ألم أقل لك إنها ستموت بسبب الغسيل»، فأجاب مدافعاً عن نفسه: «ما ماتتش (لم تمت) من الغسيل، ماتت من العصر».
تنطبق هذه النكتة على جمهوريات العرب الكبرى، حيث نرى تلك الدول تموت من شدة عصرها وبهدلتها كل يوم بداعي الحرص عليها. يزرعون الريح وحصادهم لا يتغير.
آخر مثال على ذلك ما نراه اليوم في العراق، حيث قامت القيامة على الاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان. ولا لوم على الشعب الكردي إذا طالب بالانفصال عن الجسم العربي المريض. إلى متى عليهم أن ينتظروا؟ هل ينتظرون حتى يعصر حرامية بغداد آخر قطرة من المال العام، أو ينتظرون أن يترفع السنة والشيعة عن الخطاب المذهبي وينظروا إلى مستقبل أوطانهم؟
ربما الأكراد على حق. فهم لن ينتظروا حتى يصبحوا مثل المسيحيين الذين اضمحلوا في العراق ولم يتبقَ منهم سوى قليل من الرمزيات والمباخر.
المعارضون لاستقلال كردستان يقولون إنها ستكون إسرائيل ثانية، «ليش لأ؟». وما ضير وطن نظيف ومرتب يحكمه القانون ويؤمن العيش الكريم لمواطنيه؛ مدارس وجامعات ومصانع واقتصاد متين. ماذا كان ينقص العرب طوال السنين الماضية ليبنوا وطناً؟ الأموال الوفيرة والعقول النيرة كانت متوفرة. ولكن نخرها شدة «عصر» الساسة الذين لا يشبعون، والجماهير المنوّمة على وقع ألحان «بالروح بالدم»، والجدل العقيم في السياسة والدين بين سني وشيعي وبين مسيحي ومسلم.
إلى متى سينتظر الأكراد؟ حتى يدخل الشيعة والسنة في دين الله أفواجاً؟ أم حتى يرضى المسلم والمسيحي بأنهم نظراء في الإنسانية؟ وهل سيتوقف الشتم والقذف بين أتباع الطوائف؟ وهل سيتوقف الجدل بين الساسة الكذابين؟ وهل سينحسر فيروس الغباء والجهل فيفقه العرب أن الله حق والحياة حق ويكفُّوا عن حروبهم ونزاعاتهم التي لا تنتهي؟
تماماً مثل القطة، الوطن لا يموت من الغسيل. فالغسل ينظف ويطهِّر. بل يموت الوطن من «العصر» فيصبح قاسياً جلمداً على أبنائه.
لم يعد يرد ذكر «العروبة» في برامج الحكي والجدل، واستعاض عنها أصحاب اللياقة بمصطلحات أخرى مثل «المشرقية». وربما هذا أفضل لـ«العروبة» التي تطلعت إليها شعوب المنطقة للنهوض، فالعروبة لزمن أجمل من هذا الزمان، ولجيل ذي عقل وحكمة وهذا زمن لا يزال يحكمه الزعران والحرامية.
Leave a Reply