وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
فعلها دونالد ترامب وأقدم على اغتيال «الرجل الثاني» في إيران: الجنرال قاسم سليماني الذي كان موفداً رسمياً من قبل حكومة بلاده، وفي طريقه للقاء رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبد المهدي، لتسلم رسالة جوابية من السعودية، كردّ على المبادرة الإيرانية حول الحفاظ على أمن منطقة الخليج.
خطوة مستهجنة استنكرتها دول عديدة، بمعزل عن إسرائيل طبعاً، لما قد ينجم عنها من انعكاسات سلبية على الولايات المتحدة نفسها وعلى المنطقة برمتها، فقد اغتالت الإدارة الأميركية شخصية رسمية، على أرض دولة ذات سيادة، متجاوزة بذلك كل المواثيق والأعراف الدولية.
من داخل البيت الأميركي نفسه ارتفعت أولى الأصوات المعترضة، فقد شددت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي على وجوب خفض التصعيد من قبل واشنطن، معتبرة أن اغتيال سليماني لم يجعل البلاد أكثر أمناً، وأنهم ما يزالون يبحثون عن إجابات بشأن مبررات العملية.
حتى الجمهوريون أنفسهم الذين ينتمي إليهم، لم يسلم ترامب من انتقاداتهم، فقد لفت السناتور راند بول إلى أن اغتيال لواء عسكري لدولة أخرى، هو عمل حربي وليس سهلاً تبريره بالمخاطر المحتملة.
أما وزير الخارجية، المتهم الأول بتحريض ترامب على اغتيال سليماني، تنصّل من تهديد رئيسه حين لوّح بضرب المراكز الثقافية الإيرانية بعد عملية الاغتيال، لعلمه بما يمثّله ذلك من خرق للقوانين والمواثيق الدولية، وللتخفيف من وطأة الانتقادات التي تعرّض لها ترامب إثر تغريدته التي تناولت هذا الأمر.
أصداء العملية
ردود الأفعال الدولية لم تكن أقل حدةً، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أكد أن بلاده تعارض استخدام القوة، ودعا واشنطن إلى خفض التصعيد. موسكو، وعلى لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، اعتبرت أن خرق واشنطن للقانون الدولي سيؤدي إلى تداعيات خطرة. مهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي، عدَّ اغتيال اللواء سليماني عملاً غير أخلاقي. دول عديدة أدانت العملية أيضاً من بينها فنزويلا ودول عربية مثل قطر، التي قال أميرها إن بلاده تقف ضد أي ضغوط تُمارس على إيران.
أما الفصائل الفلسطينية فقد أجمعت على إدانة العملية بأشد العبارات، وأوفدت ممثلين عنها إلى الجمهورية الإسلامية للمشاركة في التشييع، أبرزهم كان وفد حركة «حماس» برئاسة اسماعيل هنية الذي ألقى كلمة خلال حفل التأبين، وأطلق على سليماني لقب «شهيد فلسطين».
نتنياهو المحرّض الثاني لترامب، اعتبر أن ترامب تصرف بسرعة وفعالية، وأن ما قام به هو دفاع عن النفس، مشدداً على أن ما حصل هو أمر يعني إيران والولايات المتحدة فقط، في محاولة منه لتحييد إسرائيل عن ارتدادات الحدث الكبير، ولا سيما بعد تهديد أكثر من مسؤول إيراني باستهداف إسرائيل من ضمن سيناريوهات الرد.
وفي مجريات كشف المتورطين في اغتيال سليماني والمهندس ورفاقهما أعلنت إيران أن قاعدة علي السالم في الكويت قد شاركت في عملية الاغتيال، فيما أكد مسؤول أمني عراقي أن تحقيقاً أولياً يشير إلى شبكة من الجواسيس داخل مطار بغداد، هي أيضاً متورطة في العملية، وأن المشتبه فيهم الأربعة نقلوا معلومات للجيش الأميركي في إطار شبكة تجسس أوسع، وهم موظفان أمنيان في مطار بغداد، وآخران يعملان في شركة طيران بمطار دمشق.
موقف الحكومة العراقية
أما الحكومة العراقية والتي دارت الأحداث على مسرحها، فأدانت بشدة، الفعلة الأميركية واعتبرتها انتهاكا صارخا لسيادتها، فهي إضافة إلى اغتيال سليماني وعدد من مرافقيه، شملت اغتيال أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، وهي هيئة عسكرية رسمية تابعة للقوات المسلحة العراقية، أيضاً مع عدد من مرافقيه.
وذهب ترامب إلى التهديد بفرض عقوبات «كبيرة» على العراق إذا أجبرت القوات الأميركية على المغادرة، وذلك رداً على دعوة برلمان العراق، الأحد الماضي، إلى «إنهاء تواجد أية قوات أجنبية» على أراضيه، عبر المباشرة بـ«إلغاء طلب المساعدة» المقدم إلى المجتمع الدولي لقتال تنظيم «داعش».
وأوضح ترامب أنه إذا طالب العراق برحيل القوات الأميركية ولم يتم ذلك على أساس ودي، «سنفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها من قبل مطلقاً. ستكون عقوبات إيران بجوارها شيئاً صغيراً».
وكان مجلس النواب العراقي قد التأم بعد اغتيال سليماني وصوّت بالإيجاب على ضرورة إلزام الحكومة العراقية بإلغاء الاتفاقية الأمنية مع واشنطن، حيث توجهت لاحقاً الحكومة المستقيلة بشخص رئيسها إلى القوات الأميركية طالبة منها المغادرة فوراً. أعقبت ذلك رسالة وجّهتها قيادة التحالف الدولي الى الحكومة العراقية تبلغها فيها نيتها الانسحاب من الأراضي العراقية، لتعود لاحقاً وتسحبها من التداول، باعتبار أنها لم تكن سوى مسوّدة أُرسلت عن طريق الخطأ، وهو ما استهجنه رئيس الحكومة العراقية المستقيل عادل عبد المهدي، وطلب توضيحاً بشأنه.
من جهتها، توحدت الفصائل العراقية بمختلف مشاربها وولاءاتها توحدت حول رفض ما اعتبرته «جريمة» بلحاظ ما قدمه سليماني والمهندس من تضحيات في محاربة الإرهاب التكفيري على أرض العراق، وتوعد العديد منها بأخذ الثأر على غرار الإيرانيين، وباستهداف القوات والمصالح الأميركية إلى حين خروجها من البلاد، وعلى رأس تلك الفصائل «كتائب حزب الله» و«جيش المهدي» الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. كذلك فعل «حزب الله» اللبناني الذي خطب أمينه العام السيد حسن نصرالله، معتبراً أن الجنرال سليماني لا يعني إيران فقط، بل يعني كل حركات المقاومة في العالم، التي أسهم بنفسه في إنشائها وتدريبها، مؤكداً أن كل تلك الحركات مدينة لسليماني وستثأر له، وأن ثأرها لن يكتمل إلا بإخراج القوات الأميركية من المنطقة بالكامل.
الصحافة العالمية تناولت الموضوع بإسهاب، فكتب بعضها في رؤية استباقية للأوضاع أن الضربات الإيرانية للمصالح الأميركية ستتواصل في الأشهر المقبلة، وأن واشنطن متجهة إلى فك الارتباط بالشرق الأوسط، وهو ما سيجعل يد إيران هي العليا في المنطقة.
كذلك أشارت تقارير إعلامية إلى أن سياسة ترامب المتبعة في الشرق الأوسط ستتيح للأعداء تحقيق أحلامهم بعد موتهم في إشارة إلى سليماني، كما أشارت إلى أن واشنطن لم تنجز شيئاً في العراق منذ غزوها الكارثي له عام 2003، وأن خروجها من أراضيه بات حتمياً بعد اغتيال الجنرال سليماني.
الرد الإيراني
إيران، الدولة المستهدفة، لملمت جراحها سريعاً، وبادرت فوراً إلى تعيين خليفة لقائد قوة القدس، هو نائبه ورفيق مسيرته العسكرية العميد إسماعيل قاآني، المعروف بحزمه هو الآخر، وعمدت إلى إطلاق سيل من التهديدات للولايات المتحدة، متوعّدة بالأخذ بالثأر، على ألسنة معظم المسؤولين فيها من سياسيين وعسكريين، وهو ما رد عليه ترامب بالقول إن في جعبة قواته 52 هدفاً إيرانياً ستقصفهم في حال تجرأت إيران واستهدفت منشآتها أو عناصرها.
لم تنتظر طهران طويلاً كي تنفذ تهديدها، فما أن انتهت مراسم دفن الجنرال سليماني الرسمية الذي تأجّل ساعات عديدة بسبب كثافة الحشود، حتى أطلقت طهران خمسة عشر صاروخاً باليستياً ذات صنع محلي من نوع «ذو الفقار» و«قيام»، على قاعدة «عين الأسد»، وهي القاعدة الأكبر في العراق، وتضم آلاف الجنود الأميركيين.
دلالات استهداف «عين الأسد»
استهداف قاعدة عين الأسد في الأنبار غرب العراق حمل دلالات كثيرة لعل أبرزها رغبة الإيرانيين في إفهام ترامب أنهم قادرون على استهداف أكبر القواعد وأكثرها تحصيناً متى ما أرادوا، حيث تعمّدوا تنفيذ ضربتهم في التوقيت نفسه الذي اغتيل فيه سليماني، أي بعد منتصف الليل بقليل، كما تعمّدوا تأجيل دفنه إلى حين ما اعتبروه إتماماً للثأر والانتقام لدماء جنرالهم ورفاقه.
وكان ترامب قد قال عن قاعدة «عين الأسد» قبل يومين: «لدينا قاعدة جوية هناك باهظة التكلفة بشكل استثنائي. لقد احتاجت مليارات الدولارات لبنائها منذ فترة طويلة قبل مجيئي. لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا تكلفتها»، وذلك في معرض رده على طلب البرلمان العراقي بمغادرة القوات الأميركية.
بغداد، تبلّغت رسمياً بالضربة قبل وقوعها، احتراماً للقوانين الدولية ولسيادتها، كما قال الإيرانيون. وهنا طُرحت تساؤلات عديدة عن احتمال إنذار الحكومة العراقية للقوات الأميركية لإخلاء القاعدة قبل ساعات قليلة من وقوع الضربة وهو ما يبرر عدم سقوط قتلى في الهجوم، فيما أكد حرس الثورة الإيرانية أنهم تعمدوا قصف المنشآت والبنى التحتية في القاعدة فقط، وتحييد القوات الأميركية كرسالة أولية، مشدداً على لسان أحد جنرالاته الكبار حاجي زادة رئيس القوة الجو–فضائية على أنها الخطوة الأولى من القصاص، الذي سيكتمل بإخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأن الخطوة اللاحقة لن تكون مجرد صفعة بل هي خطوة ستغير المعادلات.
ما بعد اغتيال سليماني ليس كما قبله، هذا ما يؤكده الإيرانيون، ولا ينفكون يومياً عن الإشارة إلى أن المنطقة ستشهد تحولات كبيرة ومفصلية، قد تبدأ بإخراج القوات الأميركية من المنطقة ولا تنتهي بإزالة إسرائيل، طفلة واشنطن المدللة.
طهران أكدت أن قاعدة «عين الأسد» شهدت دماراً واسعاً، وأن الأميركيين منعوا الصحافيين من الدخول لإخفاء خسائرهم البشرية والمادية. أما خارج القاعدة، فعلى نحو يومي تتكرر حوادث استهداف مناطق وجود القوات الأميركية، من المنطقة الخضراء إلى قاعدتي بلد والتاجي، فيما تنفي الفصائل العراقية صلتها بالموضوع، معتبرة أنها لم تبدأ بعد، مسيرة تحرير البلاد، وأن تلك الأحداث هي من صنع أميركي لإحداث بلبلة في الشارع العراقي.
ترامب يريد التعاون مع إيران!
الرئيس الأميركي الذي غرد بعد الضربة الإيرانية قائلاً: كل شيء على ما يرام، ظهر في اليوم التالي ليجزم بعدم وقوع خسائر في الأرواح، وهو ما فسّره المراقبون بأنه تهرب من الرد على الرد. بدا ترامب هادئاً، وبدلاً من أن يهدد إيران ويتوعدها، دعاها للتفاوض مؤكداً أن لا مشكلة لديه مع نظام طهران، وأنه أعطى الأمر باغتيال سليماني لأنه كان ينوي مهاجمة جنود أميركيين وقتلهم.
معادلة جديدة
أمام حدث من قبيل استهداف قاعدة «عين الأسد» بصواريخ باليستية إيرانية، يصبح الحديث عن حجم الخسائر سواء البشرية منها أم المادية تفصيلاً، أو جزءاً من التكتيك العسكري، لكنْ، ثمة بُعد استراتيجي في الأمر لا بد وأن واشنطن قد أخذته في الاعتبار: وهو أنها المرة الأولى التي تقدم فيها دولة ما على قصف قاعدة أميركية منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى التهديد المباشر الذي وجّهته إيران إلى واشنطن في حال الرد على الرد، فضلاً عن اختيار المكان والزمان وفق حساباتها هي!
لا شك أن العملية كرست معادلة ردع جديدة في المنطقة وأسقطت الهيبة الأميركية فيها! كذلك لا يمكن أبداً إغفال الرسالة القوية التي وجهها الشعب الإيراني من خلال المشاركة الحاشدة في مراسم التشييع، حيث غصّت شوارع المدن الإيرانية التي مر فيها الموكب الجنائزي بالمودّعين الذين هتفوا بالموت لأميركا وبطلب الثأر، الأمر الذي أعطى دفعاً قوياً للسلطات الإيرانية، وأسقط سلفاً أي رهان مستقبلي على زعزعة أمن إيران من الداخل.
ولا شك أيضاً أن الرد الإيراني لن يكون يتيماً، حسب طهران. لكن المراقبين يتوقعون ولو مرحلياً باكتفائها به، وإيكال الأمر إلى الحلفاء في ما تبقى من وقت إلى حين إتمام «الثأر» بإخراج القوات الأميركية من المنطقة، سواء برضا ترامب أو في حرب استنزاف قد تطول. أما المنطقة فستظل على صفيح ساخن حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
Leave a Reply