إذا كان صحيحا أننا هجرنا بلداننا، وحملناها في قلوبنا وعقولنا في المهاجر، وذرفنا الدموع والحسرات على ذكرياتنا فيها، فإذن فيحق لنا أن نتساءل، نحن الذين تعيش الأوطان في قلوبهم، بدل أن نعيش فيها: ماذا فعلنا من أجل تلك الأوطان، سوى الحنين إليها؟
نتذكر تلك الظاهرة التي نشأت في بدايات القرن العشرين، والمسماة بـ”الشعر المهجري” الذي تمحورت مواضيعه بشكل لافت ومكرس حول حنين الشعراء إلى مساقط رؤوسهم، وارتباطهم بشكل ظاهر بقضايا أوطانهم (مثل التحرر من نير الاستعمار في ذلك الوقت). ونتساءل بعد انقضاء الأيام وطول الإقامة في بلاد العم سام: لماذا لم ننجح في خلق ظواهر مشابهة، أو موازية، لتلك الظاهرة؟ لماذا لا يوجد ما يمكن أن ندعوه: الثقافة العربية المهجرية، أو السياسية العربية المهجرية، أو حركات التحرر (المدنية والحقوقية) المهجرية؟
وإذا كان صحيحا وثابتا، أن الشعراء المهاجرين ، كتبوا تلك القصائد وأرسلوها إلى القراء العرب في العالم القديم، لينعموا ويستمتعوا بقراءتها.. فما الذي يمكن لنا –نحن المهاجرين- أن نقدمه لهم في مجال الحريات والديمقراطيات… والثقافات الجديدة؟
والجواب: بكل أسف.. لا شيء!
ليس لدينا ما نقدمه لهم، أو نمدهم به، أو ندلهم عليه. والأخطر.. أن تلك البلدان التي “هربنا” من فقرها وبطش حكامها وضحالة مستقبلها ماتزال تحكمنا وتسيطر على سلوكياتنا وطرائق تفكيرنا.. حتى ونحن نلثغ باللغة الإنكليزية. فخلال عقودنا من إقامتنا في مهاجر الغرب، وقلعته الولايات المتحدة، فشلنا في تصدير المعاني الحقيقية لقيم العدالة وحقوق التعبير وحريات الاعتقاد والتدين، وابتلينا بما ابتلي به أبناء جلدتنا من تعصب وتمزق وشرذمة، وفي أحيان ليست بالقليلة بالشخصانية والنرجسية والمصلحجية!
و”الربيع العربي” مناسبة لإظهار هشاشتنا ورخاوة مبادئنا وضيق نظرتنا إلى الأمور، ففي الوقت الذي تدفق فيه العرب العاديون في مختلف العواصم العربية يحاولون تغيير أوضاعهم، ركبتنا الحماسة من رؤوسنا حتى أخامص أقدامنا، وبدأنا نتشدق بإرادات الشعوب وبطولاتها وتطلعاتها التحررية، وارتفعت عقيرة المحللين والمراقبين والمثقفين ورؤوساء المعاهد الفكرية والبحثية، الملحقة قسراً وزوراً وبهتاناً وسخفاً بـ”العرب الأميركيين” لتطالب وتناقش وتحلل ما يجري في الوطن العربي، من دون أن تنقصهم الحماسة وحماوة التأييد للشعوب العربية المسحوقة.
والسؤال: أين كان هؤلاء المثقفون والأكاديميون والمفكرون عندما كان القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وحسني مبارك وبقية الجوقة من الرؤساء والملوك والمشايخ العرب يسلخون جلود مواطنيهم، لأقل همسة، أو غمزة، أو تعريض؟
المؤسف والمؤلم أن الربيع العربي صار موجة. موجة كبيرة لم تركبها الولايات المتحدة وحدها كما يشاع ويروج، بل أصبح موجة يريد الجميع ركوبها، للحصول على قطعة صغيرة من قالب الحلوى المصنوع من دماء البسطاء وقلوبهم. وإن نظرة سريعة على صفحات بعض “المثقفين” و”الأكاديميين” الذين أصبحوا يتنافسون بعدد أصدقائهم على موقع “فيسبوك” أو الذين يلحقونهم على موقع “تويتر”، (مثلهم مثل المطربات ومغنيات الدرجة الثانية)، تظهر ذلك الكم الهائل من النفاق والمزاودة، من دون أن ننسى نشاطات المنظمات والمعاهد “غير النفعية” التي يديرها ويشرف عليها منتفعون ومغرمو الوجاهات والكراسي الأمامية.
نعم.. ماذا قدمنا لإخوتنا في الأوطان الذين كانوا، وما يزالون، يصطلون جحيم الحياة اليومية ويغرقون في فقر مدقع، في الوقت الذي كنا نسافر فيه كالسائحين إلى أوطاننا لننعم بجمالها وخضرتها ورخص الأسعار فيها؟
في آخر الأمر.. قد لا يكون في وسعنا أن نقدم لهم ما هو فوق طاقتنا، أو أكثر مما نحتمل، لكن السؤال يبقى: لماذا تحكمنا عقدة البطولة والفهمنة والفذلكة والوطنية؟ وهذا بالطبع سؤال له إجابات بتعدد الناس ودوافعهم ومصالحهم وفهمهم للأمور!
Leave a Reply