ليس من الجديد القول أن السلطة الحاكمة في اليمن، وبجانبها القوى المعارضة تجهل التاريخ الإنساني بكل أبعاده السياسية والحقوقية والثقافية، ولذلك عجزت تلك القوى وفشلت في تقديم ممارسات سلوكية تصون حقوق الإنسان اليمني وتحميه من بطش الأقوياء والظالمين معدومي الرحمة والضمير، في إطار قانوني واضح وصريح يساوي بين الأفراد داخل تراب الوطن، ولهذا تنتقد المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان الحكومة اليمنية بشدة وتحملها مسؤولية الإنتهاكات الصارخة بحق المواطنين في بلادنا.
المقارنة بين حقوق الإنسان في الدول الأخرى “المتحضرة بالتحديد” وحقوق الإنسان اليمني، سيوصل المقارن لنتيجة مفزعة تقول أن حقوق المواطن اليمني معدومة تماما في ظل النظام القائم، وسيجد في مقارنته تلك أن الحكومة المخولة بحماية تلك الحقوق أول من ينتهكها، وأول من يعتمد “شريعة الغاب” حيث الحياة للأقوى والموت والذل للأضعف في التعامل مع المواطنين، وما مأساة الجعاشن وتشريد اهلها بعد انتزاع حقوقهم الطبيعية من قبل شخص واحد برعاية وحماية ومساندة الدولة، سوى دليل دامغ على ما تشهده البلاد من أحداث مؤسفة ومخجلة في تلك الجوانب التي أصبحت في كثير من دول العالم، مجرد “ذكريات مؤلمة” تجاوزها البشر بعد الوقوف أمام أسبابها وأحداثها من أجل استنباط قوانين جديدة مستقاة من مختلف الثقافات البشرية، والتي أدت كما هو معروف إلى تطوير مفاهيم وممارسات إنسانية وقانونية وصلت المجتمعات من خلالها إلى مراحل راقية في ما يعرف بحقوق الإنسان وحقه الطبيعي في حياة كريمة وآمنة ومتساوية لكل الأفراد مهما اختلفت ألوانهم ولغاتهم وأديانهم.
تحتاج السلطة في اليمن إلى دورة تأهيل تتعلم من خلالها معاني حقوق الإنسان، كما تحتاج القوى المعارضة أيضا لدورة تتعلم من خلالها كيف ترغم الحاكم على تبني تلك الحقوق وكيف يحافظ عليها، ولعل المعارضة هنا تتحمل جزءا كبيرا من تلك الممارسات لأنها لو أدت عملها بشكل صحيح لعمل لها الحاكم ألف حساب، وسعى دوما لسد الإختلالات القائمة، لكن يبدو أن قيام بعض رموز المعارضة بممارسات تساوي ممارسات رموز السلطة، يعمل وبشكل كبير على تجاهل الكثير من القضايا المخزية المحزنة، والتي لو حدثت واحدة منها في دولة أخرى تملك معارضة حقيقية وصادقة لتغيير النظام كاملا وليس مجرد وزير أو مسؤول، وعلى المعارضة معرفة وإدراك أن بياناتها الورقية لم ولن تحل مشكلة أو توقف تصرف طاغية او ظالم وفاسد، كما أن الحلول الترقيعية لكثير من القضايا الحقوقية خطأ فادح، عمل على توالد وتكاثر الإنتهاكات الصارخة ضد أبناء الشعب خلال السنوات الأخيرة التي شهدت ممارسات مقززة وخطيرة اهتزت من هولها وبشاعتها أنظمة اخرى، كقتل المتظاهرين والمعتصمين واعتقالهم التعسفي المخالف لكل الأعراف والقوانين، وخطف واحتجاز ومحاكمة الصحفيين وتلفيق تهم ضدهم كما حدث للأيام وبا شراحيل، وبجانب تلك قضايا شديدة السواد شيطانية المشهد، كقضية أنيسة الشعيبي ودرزي وأخيرا وليس بآخر مأساة الجعاشن.
أعلم تماما أن الشعب يمر بمحنة رهيبة تمثل في حد ذاتها “القضية المركزية” المستوجبة تجمع الجهود الوطنية الصادقة لإنقاذ الوطن وإخراجه من تلك المحنة خطوة خطوة، عبر تنفيذ وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وإن العودة إلى الأحلاف والمواثيق البشرية الحامية للضعفاء من بطش الأقوياء سيشكل حلا جزئيا سيساهم في نشر الأمان وتحجيم النفوس الخبيثة المستهترة بالإنسان وقيمته وحقوقه، كما حدث في عهد الجاهلية التي تداعى رموزها يوما لإنشاء “حلف الفضول” الذي شهده المصطفى عليه الصلاة والسلام قبل بعثته وأقره بعدها بقوله أنه لو دعي لحلف مماثل بعد الإسلام لاستجاب له كما قال صلى الله عليه وسلم.
حلف الفضول كان عهدا وميثاقا أجمع عليه كفار قريش وأقروا فيه نصرة المظلوم وإعانة الضعيف ومنع بطش الأقوياء واستغلال نفوذهم وأموالهم في مصادرة حقوق الإنسان التي تعارف عليها القوم في تلك الفترة، مدللين بعملهم ذلك أن الحفاظ على بقاء ولو معايير جزئية من أخلاق البشر مسؤولية الجميع في كل زمان ومكان، ولذلك أقر نبينا عليه الصلاة والسلام ذلك الحلف وأشاد به لما فيم من مكارم حقوقية جاء صلى الله عليه وسلم لتكملتها كما دل حديثه الشريف على ذلك (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
في زحمة المعاناة الإنسانية لأهل الجعاشن خطر ببالي استفسار فرضه التعامل الهش والمخجل مع تلك المعاناة الجماعية من قبل المعارضة وليس السلطة لأنه لا خير فيها، مفاده تساؤل ومقارنة بين سبب إنشاء حلف الفضول نتيجة ظلم لشخص ضعيف انتزع حقه إسم قوي في مكة يومها وبين معاناة أهل الجعاشن المظلومين أمام جبروت شخص واحد، فماذا لو حدثت مأساة الجعاشن في ذلك الزمن واستنجد اهلها بكفار قريش أو بقبائل العرب في التاريخ الجاهلي؟!
من واقع تلك الفترة بجاهليتها في مسألة العقيدة وجودة أخلاقها في الشجاعة والكرم ونجدة الملهوف ونصرة الضعيف، سأتجرأ وأقول أن نسبة حل تلك المأساة وإنقاذ أهل الجعاشن كان أمرا قائما سيتم ببيت شعر وصرخة من ضعيف، قد تلحق العار لإسم قوي بمركزه ونفوذه وأهله وقبيلته، إذ أن العرب وقتها كانت تخشى وتخاف من العمل القبيح الذي يلحقها المهانة والعار، أما في زمن النظام القائم والمعارضة البطيئة فقضية الجعاشن تثبت لكل مكابر ومدعي أن الناس فقدت قيمها وأخلاقها وشهامتها، حتى أنها لم تعد تهتم أو تلقي بالا لأعمالها القبيحة والمزرية، مع ملاحظة أن الآخرين في الدول الأخرى يتسابقون ويتداعون لصيانة الإنسان وحمايته “في أوطانهم أولا”، ولو من خلال منظمات مدنية دولية قد يكون القائمين عليها بلا دين أو ملة، لكنهم يحملون قيماً بشرية فقدها من يسمون أنفسهم مسلمين ومشايخ كرام من أسر راقية وكبيرة!!
ما يحدث لأهل الجعاشن عار كبير يتقاسمه الحاكم ومن يسمون أنفسهم مدافعين عن الشعب وحقوقه، وكما قلنا سابقا أن السكوت على أحداث خطيرة من قبل القوى المختلفة في البلاد جشع الكثير من أعضاء فصيلة البطش والظلم والجبروت على ممارسات قبيحة زادت قبحا لحظة تهافت أسماء توصف مبالغة بالقوة والمكانة الإجتماعية، في الوقوف بقوة ضد من ينتقد تلك الأعمال المخلة كما قال حسين عبدالله الأحمر في وصف محمد أحمد منصور بالشخصية الوطنية وقول يحيى الراعي أنهم في السلطة سيقومون بقطع ألسنة أهل الجعاشن عند تظاهرهم أمام مجلس النواب إذا كان عملهم مبني على تصفية حسابات وتشويه صورة ذلك المناضل الوطني، لكنه لم يقل حتى بعد معرفته الحق أن السلطة ستوقف بالقانون المعتدي الأثيم عند حده.
Leave a Reply