كمال ذبيان – «صدى الوطن»
قبل أن يجف دم الناشط والكاتب السياسي لقمان سليم، الذي قُتل على طريق العدوسية في جنوب لبنان، ظهر البطريرك الماروني بشارة الراعي بموقف جديد لافت طالب فيه بتدويل الأزمة اللبنانية التي تبدو عصية على الحلول الداخلية بين القوى السياسية النافذة، لاسيما بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة سعد الحريري.
الراعي اقترح «تدويل الملف اللبناني»، قائلاً إن «وضع لبنان المنهار يستوجب أن تطرح قضيته في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة»، موضحاً أن الغرض من المؤتمر هو «توفير ضمانات دائمة تمنع التعدّي على لبنان والمسّ بشرعيّته، وتضع حدّاً لتعدّدية السلاح، وتعالج حالة غياب سلطة دستورية واضحة تحسم النزاعات، وتسدّ الثغرات الدستورية والإجرائية، تأميناً لاستقرار النظام، وتلافياً لتعطيل آلة الحكم أشهراً وأشهراً عند كلّ استحقاق لانتخاب رئيسٍ للجمهورية ولتشكيل حكومة».
بالطبع، لم تأت دعوة الراعي من فراغ بل جاءت في سياق تصريحات متزايدة تحذر من خطر زوال لبنان، وكان آخرها كلام لرأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس، الذي أبدى تخوفه من انهيار الاقتصاد اللبناني، ومصير المسيحيين فيه.
التدويل لغة قديمة
طرح البطريرك الراعي بتدويل أزمة لبنان، ليس بالجديد، فهو حصل سابقاً بل تكرر مراراً في تاريخ بلاد الأرز، منذ تمّ استحضار الدول السبع، بعد الأحداث الدموية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان منتصف القرن الثامن عشر والتي امتدّت إلى مناطق مجاورة كزحلة.. فتولى حينها، القناصل حكم لبنان، تحت رعاية متصرف عثماني، وإقامة ما يشبه إدارة ذاتية للجبل تقاسمها الطرفان المتنازعان، من خلال قائمقام درزي وآخر ماروني، في ضفتي الجبل، ومن حينه بدأ لبنان يعرف الطائفية السياسية، والتبعية للوصاية الدولية.
ثم جاء الانتداب الفرنسي بعد زوال السلطنة العثمانية، حيث أنشأ الجنرال غورو «دولة لبنان الكبير» قبل قرن من الزمن، فولد الكيان بصناعة فرنسية، تحت شعار حماية الوجود المسيحي وتحديداً الماروني، فجرت تسوية بضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان، بموافقة إسلامية لتخرج الصيغة الجديدة التي سميت بـ«الميثاق الوطني» عام 1943، فكان استقلال لبنان عن فرنسا.
لكن النفوذ الخارجي لم يغب قط، عن الساحة اللبنانية، فكان الحضور البريطاني طاغياً ما بعد الاستقلال إلى أن حل مكانه النفوذ الأميركي في الخمسينيات، في إطار مشروع واشنطن لمحاربة الشيوعية في الشرق الأوسط، وكذلك المد القومي العربي الذي كان رمزه الرئيس المصري جمال عبدالناصر.
فانضم لبنان برئاسة كميل شمعون إلى المشروع الأميركي و«حلف بغداد»، قبل أن يخرج منه، ويقترب من الناصرية خلال عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب الذي انتخب بتوافق أميركي–مصري، فكانت المرة الأولى التي يصل فيها قائد جيش لرئاسة الجمهورية، ليصبح ذلك طموحاً مشروعاً لكل مَن يقود المؤسسة العسكرية.
استدعاء الخارج
التدخل الخارجي في لبنان، لم ينقطع منذ إنشائه، بل كان سافراً في كل أزمة تقع في البلاد، فينقسم أطراف الداخل وفق أجندات إقليمية ودولية وصولاً إلى استدعاء قوى عربية أو أجنبية لمحاولة حسم الصراع.
هذا ما حصل مع مسألة الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، والتي أفضت إلى صراع داخلي واشتباك عسكري كان الجيش طرفاً فيه إلى جانب أحزاب اليمين المسيحي التي ناصرت الجيش، على أنه حامي «النظام» الذي كانت تتسيده «المارونية السياسية» وتستأثر بمغانمه، مع تنفيع آخرين من مختلف الطوائف ممن تختارهم ليس كـ«شركاء»، بل «أجراء»، إذ كان يوصف رئيس الحكومة، قبل اندلاع الحرب الأهلية، بـ«الباش كاتب» عند رئيس الجمهورية.
أما أسباب الحرب الأهلية فترجع إلى الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، والذي أخرج المخيمات الفلسطينية عن سلطة الدولة، واقتطع أرضاً في الجنوب، بمنطقة العرقوب في شبعا وكفرشوبا والهبارية وكفرحمام وراشيا الفخار، القريبة من فلسطين المحتلة، لتكون نقطة إنطلاق لعملياته الفدائية ضد دولة الاحتلال.
وهذا الخيار أدّى إلى تأجيج الكراهية ضد الفلسطينيين مع تصاعد الخطاب السياسي لقوى حزبية وسياسية –غالبيتها مسيحية– اعترضت على وجود «دولة داخل الدولة»، فوقع الصدام الذي امتد إلى غالبية المخيمات الفلسطينية، التي كانت تتعرّض في الوقت نفسه لاعتداءات إسرائيلية وعمليات اغتيال طالت ثلاثة من قادة المقاومة في بيروت هم كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في نيسان 1973.
تلك الأحداث أشعلت الشارع اللبناني المساند للمقاومة الفلسطينية بوجه السلطة التي كانت عقدت اتفاقاً في القاهرة عام 1969 بين الجيش اللبناني برئاسة قائده العماد إميل البستاني ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، يسمح بعمل المقاومة الفلسطينية في لبنان، لكن هذا الاتفاق كان يخرق، بتمادي الفلسطينيين بالتسلح والتوسع، مما قوبل بموجة تدريب وتسليح لأحزاب يمينية–مسيحية، وصولاً إلى اندلاع شرارة الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، والتي امتدت نحو 15 سنة، كان لبنان فيها مجرد ساحة صراع دولي بأدوات محلية وأجنبية.
الحرب الأهلية
بعد اندلاع الحرب الأهلية، جاء الدخول السوري إلى لبنان في تموز 1976 لمنع انزلاق الأطراف المسيحية نحو التحالف مع إسرائيل، لكن رهانات دمشق خابت، بعد ذهاب الرئيس المصري أنور السادات إلى فلسطين المحتلة، وعقد «اتفاق سلام» مع العدو الإسرائيلي، فانقلبت «الجبهة اللبنانية» على تحالفها مع سوريا وقررت التعامل مع الكيان الصهيوني الذي اجتاح الجنوب عام 1978، وأقام فيه شريطاً حدودياً لعملائه، لمنع وجود مقاومة فيه.
ومع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، نصّب جيش الاحتلال، بشير الجميّل رئيساً للبلاد بعد تعاونه مع بهدف طرد المقاومة الفلسطينية.
ومع طرد «منظمة التحرير» وزعيمها «أبو عمار» من لبنان، لم ينتبه وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، وحليفه بشير، إلى أن مقاومة وطنية لبنانية ستنشأ ضد الاحتلال بقيادة أحزاب قومية ويسارية، فقام مقاوم من «الحزب السوري القومي الاجتماعي» اسمه حبيب الشرتوني، باغتيال الجميّل، ليقصم بذلك ظهر المشروع الصهيوني لحكم لبنان وتوقيع سلام معه.
ونجحت عمليات المقاومة الوطنية سريعاً في طرد الاحتلال الإسرائيلي من بيروت، وليست القرارات الدولية، ولا الأمم المتحدة التي حصل الاجتياح الأول (1878) والثاني (1982)، أمام أعينها دون أن تحرك ساكناً.
توالت عمليات المقاومة خلال السنوات اللاحقة فتم استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي وحلفائها اللبنانيين، إضافة إلى «القوات متعددة الجنسيات» التي أُحضرت للإشراف على خروج المقاومة الفلسطينية من الجنوب ونشر الجيش اللبناني لمنع أية عمليات تستهدف إسرائيل. لكن تلك الطموحات اصطدمت بقوى المقاومة الوطنية التي حاصرت حكم الرئيس أمين الجميل في قصر بعبدا، وفرضت عليه إلغاء اتفاق 17 أيار مع العدو الصهيوني.
انتهت الحرب الأهلية باتفاق الطائف واستعادة لبنان وجهه الوطني والعربي المقاوم الذي أفضى بعد عقد من الزمن إلى طرد القوات الإسرائيلية بالكامل مع اشتداد عمليات «المقاومة الإسلامية» بقيادة «حزب الله» الذي نجح بتحرير الجنوب، دون قيد أو شرط أو مؤتمرات سلام. أما اتفاق الطائف فقد حمل معه آليات حكم جديدة تحت سقف أميركي–سعودي–سوري، وفّر مناخاً لعودة انتظام المؤسسات وتوحيدها، دون أن يمنع المقاومة من النمو وتعزيز قدراتها بمساندة الجيش السوري والدعم الإيراني.
هدف واحد
مع إنجاز التحرير عام 2000، بدأت تخرج مواقف تطالب المقاومة بتسليم سلاحها لانتفاء الحاجة إليه، فطرح وليد جنبلاط شعاره «لبنان هانوي أم هونكونغ؟»، وبدأ التركيز على إخراج القوات السورية، لأنها تشكّل مظلة «حزب الله»، وتؤمن له طريق التواصل مع إيران التي بات لها نفوذاً في لبنان وعلى البحر الأبيض المتوسط.
وبدأت الضغوط الدولية تتجلى مع صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الداعي لإخراج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح «حزب الله».
انقسم اللبنانيون مرة أخرى وبدأ مسلسل الاغتيالات لزرع الفتنة، ومنها اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي قلب المشهد اللبناني رأساً على عقب وأدخل البلاد في مرحلة جديدة من التدخلات الدولية تحت شعار المحكمة الدولية قبل أن تقرر إسرائيل شنّ عدوان واسع بهدف القضاء على «حزب الله» وترسانته في صيف 2006، في وقت خرجت فيه أصوات داخلية تطالب بنشر قوات دولية بقرار أممي تحت الفصل السابع، إلا أن صمود المقاومة 33 يوماً، أحبط الحرب والمعولين عليها، فخرجت المقاومة منتصرة مع حلفائها الذين لم يتخلوا عنها في خضم المعركة، مثل الرئيس إميل لحود وميشال العون الذي كان يترأس أكبر كتلة مسيحية في البرلمان اللبناني قبل أن يُنتخب لاحقاً رئيساً للبلاد بدعم من «حزب الله».
عودة اقتراح التدويل اليوم، ليست بغرض إنقاذ لبنان ووقف الانهيار، بل لها وظيفة واحدة ضمن مسلسل مستمر، وهو سلاح المقاومة، الذي يجري اتهامه بأنه وراء كل الأزمات السياسية والمالية في لبنان. وما من شك في أن هناك فئة من اللبنانيين ترى أنه لابدّ مَن أن يسقط هذا السلاح في سبيل إعلاء الدولة وإنهاء الدويلة، وغير ذلك من الشعارات التي رفعتها قوى «14 آذار» وحاولت فرضها عبر حكومة فؤاد السنيورة قبل أن تصطدم بأحداث 7 أيار 2008.
فالتدويل كانت له دائماً وظيفة واحدة، وهي تعويم فكرة «حياد» لبنان التي يريدها البطريرك الراعي، والتي لا يمكن أن تتحقق في ظل استمرار حالة العداء مع إسرائيل.
وإذا كانت عدة دول عربية قد ذهبت في هذا الاتجاه عبر عقد اتقاقات مع دولة الاحتلال، فإن تحقيق ذلك في لبنان أمر صعب المنال، إلا إذا تقرّر الذهاب إلى حرب داخلية تمهد لتدخل خارجي تحت عنوان استعادة السلم الأهلي، مثلما حصل في تجارب سابقة استحضرت فيها قوى عسكرية دون أن تغيّر النفس المقاوم لبلاد الأرز.
ولو أراد البطريرك الراعي فعلاً معالجة أزمات لبنان الاقتصادية والسياسية، لكان الأجدر به أن يطالب بتغيير النظام السياسي الطائفي، لكنه في الواقع لا يرغب بإلغاء الطائفية السياسية التي هي وراء كل مصائب لبنان، كما هي وراء نفوذ رجال الدين وزعماء الطوائف.
من جانب آخر، ثمة ما يلفت الانتباه في التوقيت المتزامن بين دعوة البطريرك الراعي للتدويل، وما أعلنه النائب أنور الخليل عن إمكانية وضع لبنان تحت الفصل السابع للأمم المتحدة، خاصة وأنه عضو في «كتلة التنمية والتحرير» التي يقودها الرئيس نبيه برّي.
فالتوقيت والمراد من كلام الخليل، استوقف المراقبين، وأحرج رئيس حركة «أمل» وجمهورها، بعد تلميحه إلى استدعاء قوات دولية إلى لبنان في حال عدم التجاوب مع دعوة الرئيس بري إلى «لبننة» الحل.
فقد رأى النائب الخليل، أنّه «بعد تفاهم أميركا وفرنسا على ضرورة التأليف، فإنّ لبنان أمام حلّين: إما تلقّف مبادرة الرئيس برّي التي أكد متابعتها لنهايتها، أو قد يفرض الحل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة»، وذلك قبل أن يصدر توضيحاً أكد فيه رفضه لتطبيق الفصل السابع «تحت أي ظرف من الظروف».
في جميع الأحول يزداد الحديث مؤخراً عن تدويل الأزمة اللبنانية، بأبعادها السياسية والاقتصادية، ولكن في واقع الحال فإن الأزمة مدوّلة فعلاً من خلال المبادرة الفرنسية التي يقودها الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي لازال يبحث لها عن شركاء دوليين وإقليميين قادرين على فرضها.
Leave a Reply