هل يمكن النفاذ إلى عقل السيد علي السيستاني مرجع الشيعة العالمي لنكشف عمّا يريده لشيعة العالم وشيعة العراق بشكل خاص؟
من خلال بعض فتاواه ومواقفه وتصريحاته يمكن ذلك؛ إذ أن جل اهتمام الرجل بشيعة العالم أن يكونوا جزء لا يتجزا من العالم الإسلامي، يشاركونه أفراحه وآلامه، ويكون لهم، كما لغيرهم، حق المشاركة في صناعة القرار السياسي عبر حكم انتخابي ديمقراطي تعددي مسالم، وحق الاشتراك في ثروات الوطن انطلاقا من مبادىء حقوق الانسان، وما تعارفت عليه الشرائع والاعراف الإنسانية والدينية والقانونية، ويرفض رفضا باتا أي “إعتزالية” شيعية بأي داع يطرح سواء بعنوان “الخاصّة” أو أهل الحقيقة المطلقة، أو أي مبرر آخر. وفي هذا السياق يناضل دون محاولات “الآخرين” لفرض هذه العزلة عليهم بحجة وأخرى. ويتضح ذلك من فتاواه أو من توصياته أو نصائحه للشيعة بالاشتراك في الانتخابات سواء كانت برلمانية أو محلية في العراق والكويت والبحرين، وهو الموقف الذي جلب انتباه الكثير من الحكومات العربية وغير العربية، فما كان لهذه الانظمة إلاّ أن توفد له الوفود للإستئناس برأيه في مثل هذه المجالات، وبذلك يعيد مجد الكثير من مراجع الشيعة الذين كانوا وسيلة تفاهم بين الحكومات، وبين الشعوب وحكامها.
السيد علي السيستاني يعرف جيدا، أو لنقل يعي، بشكل واضح الواقع والتاريخ والظروف ولذلك لا يورط شيعته بمشاريع ذات نكهة ثورية دموية أو ذات نزعة مثالية تجلب على المسلمين والشيعة بشكل خاص المتاعب الدولية والمحلية، وتورد الناس بمهام هي فوق الطاقة والقدرة، ولذلك يطالب شيعته وكل مسلمي العالم توسل الحكمة والموعظة الحسنة في التعامل مع القضايا الخطيرة، التي من شأنها زج الشعوب في دوامة الدم والخراب والفوضى، ولكن كل ذلك في سياق الحفاظ على شرف الانتماء للإسلام، ولذا ليس هناك أدنى تهاون فيما يتعرض الاسلام للخطر، ومبادئه للتحريف والاستهانة والتهجين، فإن معادلة “كل شيء بحسابه” تشكل جوهر تصرفات وسلوك ومواقف السيد علي السيستاني.
السيد علي السيستاني لا يؤمن بولاية الفقيه، وموقفه من الحكم بشكل عام النصح والارشاد، وبذلك يريد من الشيعة في العالم أن يكونوا دعاة تغيير باللسان والقلم، ولا يريد لهم انتهاج طريق آخر يؤدي إلى ارباك معادلة الوطن وسلامته، فهو رجل مسالم ولكن بلغة قوية، وحجة با لغة، ومسالمته لا تعني الخضوع والاستجداء، صرامة في المبادىء والافكار والانتماء ولكن مرونة بالتطبيق والتنفيذ، وتلك براعة تحتاج إلى حكمة ودراية وفن.
يبدو أن السيد علي السيستاني قرأ تجارب المراجع الشيعية التي سبقته؛ قرأ تجربة السيد جمال الدين الافغاني وتجربة المشروطة والمستبدة، وتجربة ثورة العشرين، وتجربة السيد محسن الحكيم، فخرج بنتيجة مؤداها إن العمل للمسلمين والشيعة يجب أن ينضبط بقوانين المصلحة العامة، والقدرة المتاحة والإمكانات المتوفرة.
الحذر معلم من معالم سيرة السيد علي السيستاني في التعامل مع القضايا التي تثير الحساسية وتؤدي إلى اشعال نار الفتنة، فهو عندما يصرح لو أن نصف شيعة العراق يُقتلون يجب أن لا يردوا بالمثل، إنما يقدر مآل مثل هذه المواجهة، الذي يتلخص بكل وضوح بالخراب الكامل والدمار الشامل للجميع!
السيد علي السيستاني بالوقت الذي يقف بكل شدة وقوة ضد الحرب التي تشنها إسرائيل على مسلمي لبنان تجده يدعو إلى الصبر والتزام الحكمة في معالجة مسائل الخلاف بين الشيعة والسنة في العراق، والشيعة وحكومة البحرين، فيما يصب الاخرون الزيت على النار عندما يطرحون قضية التكفير في مقدمة اهتمامتهم الفكرية والثقافية وهم يتصدون لقيادة المسلمين! فهناك منهجان ومدرستان، منهج الحكمة والعقل، ومنهج التحريض والتهييج، وقد ضرب السيد علي السيستاني مثلا رائعا على طريق المدرسة الاولى.
كتبت مرة وقلت: أما آن الأوان لسنة العالم ان ينفتحوا على السيد السيستاني؟ وفيما اطرح مثل هذا التساؤل لأني مؤمن بأن ذلك يفتح بابا واسعا لدرء الفتنة التي تنتشر اليوم بكل شراسة بين المسلمين وتحت ذرائع وحجج خطيرة في مقدمتها التكفير بشكل واضح وعلني وصريح.
إن السيد علي السيستاني لا يريد لشيعة العالم سوى ما يريده لكل مسلم بل لكل إنسان، وطالما يصرح أنه مع كل مظلوم في هذا العالم، وينأى عن منطق الدم والمواجهات العنيفة، ويتخوف كثيرا من أن يورط الشيعة انفسهم في مشاريع هي فوق طاقتهم وفوق إمكاناتهم، وخطابه خارج دائرة أي إنتماء لا يمت بصلة إلى منطق الحق والعدل والمساواة، اي منطق مباديء حقوق الانسان العالمية.
إن مجمل مواقف السيد علي السيستاني تعبر عن انفتاح واضح على كل المسلمين، ولكن بصراحة تامة لم تلق هذه المواقف من الآخرين المواقف المشابهة، وفي ذلك ضرر كل المسلمين.
Leave a Reply