أقل دموية من نظيراتها الأميركية.. و”لن تختفي قريباً”
ديترويت – خاص “صدى الوطن”
تعيش عصابات المافيا في ديترويت في الظل. ورغم أنها لطالما كانت كذلك، لكنها الآن في الظل اكثر من أي وقت مضى.
أعضاء المنظمة في ديترويت ليسوا كنظرائهم في المدن الأميركية الأخرى، الذين يسعون للظهور امام عدسات الكاميرا، بحسب كيث كوربيت وهو مدعٍ فدرالي سابق وعضو وحدة مكافحة الجريمة المنظمة. يقول كوربيت “الكثير من هؤلاء بارعون في ارتداء عباءة الشرعية”، بكلام آخر بحسب كوربيت فهم يشكلون الوصفة السرية للنجاح، لناحية تجنيب انفسهم الزج في السجون لفترات طويلة، “هذا إذا سجنوا اصلا”، كما ان عددا قليلا من الناس عندهم فكرة عن وجودهم.
هذا الحال ليس هو بالضبط حال المافيات في المدن الاميركية الاخرى، حيث تم القبض الاسبوع الماضي على عراب المافيا الشهير في بوسطن من اصل ايرلندي جيمس (وايتي) بلغر، ووجهت له 19 تهمة قتل مرتبطة بالعصابات، وذلك بعد 16 عاما من الملاحقة من اجهزة تنفيذ القانون. بلغر هذا جسّدت شخصيته في فيلم سينمائي، بعنوان “الراحل”، حاز على جائزة الأوسكار لدور جاك نيكلسون، وهو قاد العالم السفلي في مدينة بوسطن عقدين من الزمن، وكان المطلوب رقم 2 بعد أسامة بن لادن.
في فيلادلفيا تصدر اعتقال عراب العصابات المنظمة المعروف جوزيف (العم جو) ليغامبي، وعشرة من مساعديه، عناوين الاخبار الشهر الماضي، وحال القاء محققين فدرالين القبض عليهم تم توجيه 50 تهمة اليهم تشمل الابتزاز والمقامرة واعطاء القروض بفوائد فاحشة.
وجاء اعتقال ليغامبي على وقع عملية اعتقال رموز في المافيا هي الاضخم من نوعها في التاريخ الاميركي، نفذتها في كانون الثاني (يناير) الماضي على الساحل الشرقي وزارة العدل الاميركية، تم القبض فيها على مئة من قيادات واعضاء العصابات المنظمة، بتهم متعددة من بينها القتل، المقامرة غير الشرعية، القروض الفاحشة، الابتزاز وتهريب المخدرات.
وفي شيكاغو أدين في كانون الأول (ديسمبر) الماضي احد قادة العصابات في المدينة ويدعى مامفياسوميشيل (مايك السمين) سارنو، وعدد من معاونيه، بتهمة الابتزاز الفدرالية.
وفي خلال الستة شهور الاخيرة نفذ عمليات مداهمة ضخمة لأوكار المافيا في كل من نيويورك، بوسطن، شيكاغو، فيلادلفيا، بروفيدنس، ونيوارك، لكن الملاحظ غياب المداهمات في مدينة مثل ديترويت، المعروفة تقليديا باحتضانها العصابات المنظمة، وهي تمثل صورة الاستقرار والكفاءة في العالم السفلي المفعم بالاشرار والمنحلين والبلطجية.
ماذا عن ديترويت؟
يتساءل سكان ديترويت الذين عايشوا قصص عصابة “بيربيل” المشهورة في العشرينات وأيام حرب شوارع الثلاثينات، والمواجهات ابان اختفاء القائد العمالي جيمي هوفا في أواسط السبعينات، ما اذا كانت عصابات المافيا لازالت قائمة في مدينة السيارات. والحقيقة ان العديدين سيتفاجأون اذا ما ادركوا ان هذه العصابات ما زالت موجودة ومنتعشة وتمارس الجريمة المنظمة اليوم.
قليلون هم المقتنعون بأن هناك في ديترويت لازالت “عائلات” من هذا النوع، على عكس العصابات المنظمة في المدن الاخرى التي يدرك وجودها معظم السكان. ففي عام 2006 القى عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي اي) القبض على 12 شخصا في منطقة ديترويت الكبرى ضمن حملة مداهمات ضمن قانون “ريكو” الذي نص على مكافحة الابتزاز والجريمة المنظمة، حيث تم توجيه التهم إليهم بالمراهنات وغسيل الاموال والابتزاز. وبرغم ان السلطات الفدرالية لم تربط القضية بالجرائم المنظمة، إلا ان سلطات محلية اكدت على ضلوع قادة شبكات مثل بيتر توكو من تروي وجاك جياكلون من وست بلومفيلد، اضافة الى عدد من المتهمين لهم ارتباطات عائلية بالعصابات.
بيتر توكو (62 عاما) المشار اليه في اشرطة مراقبة فدرالية بـ”بلاكي” و”سبيس” أقر بذنبه وبالتهم الموجهة اليه وزج به في السجن سنتين ليطلق سراحه السنة الماضية.
جياكلون (60 عاما) حوكم وتمت تبرئته، وهو معروف بلقب “جاك الصبي” و”جاكي باثروب” وتدور الشائعات حول أنه يُعدّ ليكون زعيم مافيا ديترويت.
نبذة عن مافيا ديترويت
الناس في ديترويت ممن ليس لديهم فكرة عن العصابات في المدينة، عادة ما يحذرون اسم توكو وجياكلون، وهي اسماء كانت تتصدر مع أسماء أخرى اخبار العالم السفلي قبل قرن.
جدّ بيتر توكو هو وليام (بلاك بيل) توكو وهو أحد مؤسسي المافيا في ديترويت، وذلك عام 1931 بعد احرازه انتصارا في حرب الشوارع التي وقعت في مطلع ثلاثينات القرن الماضي بين العصابة التي كان يقودها مع جو زيريلي وليو سيلورا وآنجلو ميلي (الجانب الشرقي من ديترويت)، على عصابة تشستر لاماري (الجانب الغربي)، كما كان انتصاره بصراعه مع عمّه جياكومو (بلاك جاك) توكو دوراً أساسياً في تزعمه المافيا مع جو زيريلي. كما أن عم بيتر، وهو جياكومو “بلاك جاك” توكو هو زعيم المافيا الحالي في ديترويت منذ العام 1970.
أما جاكي جياكلون هو ابن مساعد زعيم المافيا فيتو “بيلي جاك” جياكلون (87 عاما) وابن اخ زعيم عصابات الشوارع في ديترويت السابق انطوني (طوني جاك) جياكلون الذي توفي بالسرطان في 2001.
خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي اطلقت لجان في الكونغرس الاميركي على “بلاك بيل” توكو، والاخوين جياكلون لقب “زعماء المافيا في مدينة السيارات”.
في العقد التالي احرز الاخوان جياكلون شهرة وطنية، واصبحت اسماؤهم تتصدر نشرات الاخبار المتلفزة من اقصى الولايات المتحدة الى اقصاها، بعد ربط اسميهما باختفاء الزعيم النقابي هوفا عام ١٩٧٥.
الزعماء الثلاثة تم ربطهم مباشرة بالعراب الاسطورة “جو زيريلي” زعيم زعماء المافيا في ديترويت لاربعة عقود، وهو واحد من القلة من خارج مافيات نيويورك تبوأ عضوية مجلس ادارة المافيات الوطنية، وكان صهراً لـ”بلاك بيل” توكو، وكلاهما قدما من جزيرة صقلية عام 1910.
وكان انطوني (طوني) زيريلي وهو الابن الوحيد للزعيم الأسطوري جو زيريلي، الشخصية المرشحة للزعامة، لكنه سجن في 1973 لادانته بغسل ملايين الدولارات من احد الكازينوهات وفندقا في لاس فيغاس، حينها فضل جو تسليم مقاليد الزعامة الى ابن اخيه جياكومو “بلاك جاك” توكو.
وجياكومو توكو وانطوني زيريلي كانا صديقين وتخرجا من “جامعة ديترويت ميرسي” عام 1949 ودخلا المافيا.
حين توفي جو زيريلي عام 1977 تزعم توكو مافيا العائلة وعين ابن عمه طوني زيريلي مساعدا له، وقاد الشابان المافيا بنجاح حتى 1996 حين قبض عليهما في عملية عرفت باسم “جاميتاكس” واتهمت المنظمة بالمراهنات والابتزاز والقروض الفاحشة.
تمت ادانة جياكومو توكو عام 1998 وزيريلي عام 2002، حينها اعتبرت سلطات تنفيذ القانون الفدرالية بانها وجهت لمافيا ديترويت “ضربة قاضية”. إلا أن ذلك لم يكن واقعيا حيث برغم ادانة معظم قادة واعضاء المافيا إلا ان الاحكام الصادرة بحقهم كانت خفيفة، حينها زج بتوكو برغم انه العقل المدبر للجرائم سنتين في السجن!
من ثم استمرت العصابة بعملها دون منغّصات تذكر، بتكاتف الابناء وابناء العمومة وذلك تنفيذا لأحكام وإرث جو زيريلي، الذي فرض على عناصر المنظمة مصاهرة بعضهم البعض، ليتزوج هذا من ابنة ذاك او اخته او ابنة عمه، على عكس ما كان يجري في المافيات في مدن اميركية اخرى لم تتبع هذا التوجه فاندس اليها المخبرون الذين يعرفون باسم “الجرذان”، فيما تميزت مافيا ديترويت بخلوها من هذه “الآفة”.
الى ذلك قال مدير “أف بي آي” السابق في ديترويت مايك كارون “معظم المتنفذين في المافيا العائلية في ديترويت كان مرتبطا بالدم والمصاهرة مع الآخر، وهذا ما جعل المنظمة عصية على الاختراق”، مؤكدا استحالة اختراق المنظمة من دخيل سواء كان عميلاً فدرالياً او غيره.
نوفي توكو وهو حفيد جو زيريلي الوحيد من ادلى بشهادة في المحكمة ضد المافيا بعد ان عقد صفقة مع “أف بي آي” عام 2000، وبعد ذلك بسنتين ادين لضلوعه في عملية “جميتاكس”، حينها شهد ضد ابن عمه جياكومو توكو في مقابل تخفيف عقوبته.
ويؤكد مكتب “أف بي آي” انه عقب خروج توكو من السجن بعد سنتين عاد ليتولى زعامة العصابة حتى الآن وهو يناهز 84 من العمر. ولوحظ ايضا ان المافيا في ديترويت تجنبت الدخول في حروب شعواء داخلها، على غرار المنظمات المشابهة في اميركا، والقاعدة عند مافيا ديترويت هي: تفادي العنف ما امكن الى ذلك سبيلا.
ويقول كارون “ما كان ممكنا استخدام العنف فيما بينهم وهم مرتبطون بصلات القرابة والمصاهرة، هذا لا يعني انهم لم يرتكبوا جرائم قتل، ولكنهم اقل عنفا من المافيات الاخرى”.
وكانت آخر جولات العنف في مافيا ديترويت حديثة بين 1998 و2002 إبان القضايا والاحكام التي صدرت بحق عدد من القيادات. ففي عام 1998 وبعد عدة شهور من توجيه الاتهامات في قضية “جامتياكس” جرح ومات احد مساعدي الاخوين جياكلون في بريطانيا بسبب تعاونه مع الـ”أف بي آي”.
بعدها بثلاث سنوات قتل احد العاملين في ملهى لرقص التعري وهو جون جاروزا (34 عاما) والذي كان والده يعمل في المافيا، وحين قتل ابنه كان يقضي فترة في السجن. وهو قتل في وضح النهار على تقاطع الميل الثامن مع افرغرين، حيث اطلق عليه شخصان النار وهو داخل سيارته الـ”كورفيت” السوداء.
وفي عام 2002 اطلقت النار على عنصر في المافيا يدعى جيرارد بيانشيت (31 عاما) في مقاطعة ماكومب وذلك بعد شهور من ادانة طوني زيريلي. وبرغم عدم التمكن من كشف الجناة، إلا ان الاجهزة الامنية الفدرالية اعتبرت الحوادث الثلاث اعمال عنف داخلية في المافيا.
وفي أيار (مايو) الماضي اتهم الاخوان من اصل صقلي جيوسبي وجيرولامو دانا، صاحبا مطعم “تيراميو” الايطالي في شلبي تاونشيب، وهما من عناصر المافيا، اتهما بالقتل والابتزاز وتهديد شهود. وقالت السلطات ان الاخوين هاجما مطعماً منافساً في الشارع المقابل وأوسعوا صاحبه ضربا بعصا بيسبول وهداده بالقتل وعائلته اذا اشتكى للشرطة. وقالت مصادر ان الاخوين اعضاء في عصابات المافيا في ديترويت وكانا كذلك في صقلية.
وفي عام 2009 تصدرت الاخبار عملية مداهمة نفذها عناصر “أف بي آي” استهدفت نماري ماتري وميشيل (ستيدي أدي) كرم وكلاهما من اصل كلداني، معروفان بانتمائهما للمافيا في ديترويت، على خلفية دفعهما رشاوى للاعبين في فريقي كرة القدم وكرة السلة في “جامعة توليدو”، بهدف تغيير نتائج مباراتين، ما من شأنه تحقيقهما لارباح تصل الى نصف مليون دولار، ضمن ادارتهما لمراهنات. مع الاشارة الى ان كرم كان صديقا مقربا من زعيم المافيا السابق جاك (جاكي السمين) لوسيدو، في حين ان ماتري صاحب متجر بقالة في منطقة ديترويت.
في ستينات القرن الماضي إبان كانت مافيا ديترويت في اوجها وصل عدد المنتمين اليها مئة شخص الآن اصبح عددهم يتراوح بين 40-50، وكان هذا العدد هبط الى 30-35 ابان قضية “جامتياكس”، لكن هناك اخبارا مفادها ان المنظمة قامت قبل ثماني سنوات بترقية العديدين فيها في مراسم احتفالية.
كثيرون لا يعرفون ان مافيا ديترويت مازالت قائمة، وانها لن تختفي في سنوات منظورة.
ويقول كوربيت “القادة الحاليون من امثال جاك توكو في الطريق الى التنحي بسبب التقدم في السن، لكن هناك جيلا جديدا على اهبة الاستعداد لتولي القيادة، فهذه المنظمة انشأت لتبقى، ولا اعتقد بامكان التحدث عن اختفائها قريبا”.
ولادة مافيا ديترويت.. وحرب العصابات
كان جو زيريلي قبل تأسيسه وتزعمه مافيا ديترويت أحد زعماء عصابة الجانب الشرقي من المدينة إضافة الى وليام توكو (بلاك بيل)، وليو سيلورا، وآنجلو ميلي، في حين كان تشستر لاماري يتزعم عصابة الجانب الغربي وكان معروفاً بوحشيته ولقّب بـ”ملك هامترامك” التي حولها الى بؤرة فساد كبيرة تحت إدارته.
ومنذ عام ١٩٢٢ بدأت السلطات حملة كبيرة على عصابة لاماري أدت الى إضعافها واضطرار الأخير الى العمل بمجالات شرعية، ما أدى الى تفوق عصابة الجانب الشرقي من المدينة التي انتعشت وتوسعت بفضل تهريب الكحول. لكن لاماري كان ينظر بعين الحسد الى عصابة الشرق. وفي ٣١ أيار (مايو) ١٩٣٠ دعا لاماري زعماء عصابة الشرق الى اجتماع في سوق “فيرنور” للأسماك في ديترويت حيث زرع ثلاثة رجال من اتباعه لاغتيالهم. إلا أن خبرة آنجلو ميلي، المنشق عن عصابة الجانب الغربي، جعلته يشك بنوايا لاماري، فأرسل ممثلين عن الزعماء فكان من نصيبهم القتل، ما أدى الى اشتعال حرب شوارع بين العصابتين قتل فيها خلال شهرين ١٤ رجلا في وضح النهار وأمام عشرات الشهود في شوارع ديترويت. وكان مثيراً للسخرية في تلك الفترة كيف أن الشهود “ينسون” تفاصيل الجرائم لدى مثولهم أمام المحكمة.
لاماري قتل من قبل أحد المقربين منه في ٦ شباط (فبراير) ١٩٣١، بطلقتين استقرتا في رأسه وهو في منزله، لتطوى حرب الشوارع بين العصابتين، وينصرف زعماء عصابة الجانب الشرقي من ديترويت، لتأسيس مافيا ديترويت التي تعمها الأسطورة جو زيريلي من العام ١٩٣١ لغاية عام ١٩٧٧، لتنتقل بعد ذلك الزعامة الى جياكومو توكو الذي لا يزال في منصبه.
المافيا اليوم تعيش في العالم السفلي من مدينة السيارات ويصعب تحديد مدى نفوذها في مدينة تنتشر فيها المخدرات والجريمة والفساد والأعمال غير الشرعية.
Leave a Reply