وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
لا تأليف ولا اعتذار، بل تريث، هكذا تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإنقاذ مبادرته بعد انقضاء مهلة تشكيل الحكومة الإصلاحية الموعودة، عبر منح الرئيس المكلّف، مصطفى أديب، وقتاً إضافياً لمواصلة مساعي التشكيل رغم المطبات العديدة المنتظرة على هذا المسار.
عصر الخميس الماضي، وأثناء توجهه إلى القصر الجمهوري للاعتذار عن مهمة تأليف الحكومة، تلقى أديب اتصالاً من ماكرون، الذي طالبه بالتريث في الاعتذار، ربما تنجح محاولات اللحظة الأخيرة في إنجاز المهمة التي ازدادت تعقيداتها مع فرض المزيد من العقوبات الأميركية على كيانات لبنانية مرتبطة بـ«حزب الله»، كان آخرها على شركة «أرتش» للاستشارات والدراسات الهندسية، وشركة «معمار» للهندسة والإنماء، بذريعة أنهما تعملان بغطاء مدني وتضخّان أموالاً لتمويل أنشطة «حزب الله»، كذلك طالت حزمة العقوبات الجديدة، سلطان خليفة أسعد، الذي قال الأميركيون إنه يشغل منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب.
فرصة أخيرة…
بعد تمديد مهلة أديب، إثر الاتصالات والمشاورات التي وصلت ليل الأربعاء الماضي بنهاره، التقى الرئيس المكلف في الموعد المحدد عند الخامسة عصراً، رئيس الجمهورية، وبعد لقاء لم يتجاوز نصف الساعة خرج أديب بملامح مرهقة وبتصريح مقتضب أكد فيه التريث من أجل مزيد من المشاورات، لافتاً إلى عدم امتلاك ترف الوقت، وأنه يعوّل على تعاون الجميع لتأليف حكومة تنفّذ ما اتُفق عليه مع الرئيس الفرنسي.
لكن هذا التريث لم يكن ليعني بالضرورة إمكانية وجود اتفاق من عدمه، ولا حتى استمرار المبادرة الفرنسية.
حقيبة المالية
العقدة الأساس التي اعترضت مسار تشكيل الحكومة تمحورت حول إصرار «الثنائي الشيعي» على الاحتفاظ بحقيبة المالية، في مقابل إصرار من رؤساء الحكومات السابقين وعلى رأسهم سعد الحريري –والذين يستظل أديب بعباءتهم ولا يستطيع الخروج منها حتى لا تلقى حكومته مصير حكومة سلفه دياب– على مبدأ المداورة في الوزارات بين الطوائف بما فيها المالية، وهو الأمر الذي لم تتطرّق إليه المبادرة الفرنسية لا من قريب ولا من بعيد، ويعتبره كل من «حزب الله» وحركة «أمل» محاولة لإسقاط ما اصطُلح على تسميته «التوقيع الثالث» أي «التوقيع الشيعي»، بالتزامن مع تسليط سيف العقوبات الأميركية على كل حلفاء الحزب، والتي طالت مؤخراً اليد اليمنى لرئيس مجلس النواب، وزير المالية الأسبق علي حسن خليل، إضافة إلى وزير الأشغال العامة الأسبق يوسف فنيانوس المقرب من رئيس تيار «المردة».
كواليس المشاورات
في تفاصيل المشاورات التي سبقت تمديد المهلة، فإن اجتماع الخليلين (ممثلي «حزب الله» وحركة «أمل») مع أديب، كان معروف النتائج سلفاً ولم تكن أجواؤه إيجابية، لاسيما في ظل تراجع الرئيس الحريري عما كان اتفق عليه، لجهة الموافقة على تسليم حقيبة المالية لوزير شيعي شرط اختيار الاسم بالتوافق معه، وهو ما كان قد تبلّغ به الثنائي ليلاً من قبل الفرنسيين، ليعود ويطالب بالوزارة موضع الخلاف لطائفته، ما استدعى تدخلاً فرنسياً مباشراً مع الرياض بغية حلحلة موقف الحريري، لكن الاتصال كان غير ذي جدوى.
التصلب في الموقف الشيعي لجهة الاحتفاظ بحقيبة المالية يقابله تصلب في المقلب الآخر، ينسحب على قيادات مسيحية وعلى البطريرك الماروني بشارة الراعي نفسه، فضلاً عن رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي نقل عنه قوله لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد إنه ضد تكريس أي حقيبة لأي طائفة.
عون أيضاً كان استمهل أديب لمزيد من المشاورات تفادياً للحرج الذي قد يقع فيه إذا أقدم الأخير على تسليمه تشكيلة لم تنل الإجماع، فهو حينذاك سيكون أمام خيارين أحلاهما مُرّ: الأول رفض التشكيلة لافتقارها التوافق المطلوب، والثاني القبول بها وإحالتها إلى مجلس النواب لتسقط هناك على الأرجح.
العقوبات الأميركية الجديدة
بالعودة إلى العقوبات الجديدة، بدا واضحاً ارتباطها الوثيق بالعقوبات التي أُقرت الأسبوع السابق، لاسيما بملف وزير الأشغال العامة الأسبق يوسف فنيانوس.
فبحسب ما ورد في النص الرسمي، الوزير فنيانوس متهم بتسهيل عقود للشركتين المستهدفتين مع مؤسسات رسمية بملايين الدولارات، وطبعاً قامت الشركتان بتجيير تلك الأموال لـ«حزب الله»، بحسب وزارة الخزانة الأميركية.
البعض قرأ في توقيت هذه العقوبات رسالة امتعاض أميركي شديد من الفرنسيين بسبب تمييزهم بين الجناحين السياسي والعسكري لـ«حزب الله»، وضغطاً من واشنطن على باريس في هذا السياق بهدف تغيير موقفها المتراخي تجاه الحزب، ، فيما يؤكد آخرون أن توقيت السير الأميركي المحموم في سياسة العقوبات هذه، ما هو إلا قطع للطريق على الدور الفرنسي، وسعي إلى إجهاض مبادرة باريس التي رمت بثقلها كله في الساحة اللبنانية.
وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وضع عبر حسابه على «تويتر»، العقوبات الجديدة في إطار مكافحة الفساد، بحسب قوله.
تصلّب في المواقف
كلام الليل محاه النهار، وتفاؤل الصباح تلاشى مساء. إذ أعربت مصادر مطلعة لـ«صدى الوطن» عن استغرابها لما كان قد أُشيع من أجواء إيجابية، فيما العقدة الأساس لا تزال هي هي، أي حقيبة المالية، لأن بقاءها في يد «الثنائي الشيعي» يعني تكريساً لعرف سياسي يراه رؤساء الحكومات السابقون، تعديلاً دستورياً غير مباشر، علماً أن طوائف الرئاسات الثلاث لم تُقرَّ دستورياً، بل هي أيضاً مجرد عرف يعتمده لبنان منذ تأسيسه.
وأمام تصلب المواقف وتبادل الاتهامات بالعرقلة والتعطيل، بدأ منسوب التشاؤم يرتفع مجدداً مع إعلان أديب بالتريث، بعد إفراط في التفاؤل كان قد ذهب إلى حد توقع إعلان التشكيلة العتيدة عصر الخميس الماضي.
موقف كتلة «الوفاء للمقاومة» جاء حاد النبرة وحاسماً لجهة ما اعتبرته إخلالاً بالتوازن الحكومي عبر انتزاع حقيبة المالية من يد الطائفة الشيعية.
كما أشار البيان الصادر عن اجتماع الكتلة إلى الدور الأميركي البالغ السلبية الذي يهدف إلى تخريب كل الجهود الرامية إلى تأليف حكومة تحظى بتوافق الجميع وتنهض بمهام المرحلة الراهنة.
دستورياً، لا شيء يرغم أديب على الاعتذار إذا لم يؤلف حكومته، فهو ليس مقيداً بمهل محددة، وقد شهد لبنان سوابق عديدة استغرق فيها تأليف الحكومات أشهراً طويلة.
أما واقع الحال اليوم قد لا يسمح بذلك، لأن الأمر يتعلق هذه المرة بالمبادرة الفرنسية التي يقودها ماكرون بنفسه، والتي تحاول السير بين الحفر والمطبات، وتحت ظلال الضغوط الأميركية التي يرى البعض أنها ليست سوى توزيع للأدوار مع واشنطن.
حكومة أو اعتذار
حتى ساعة متقدمة من ليل الخميس الجمعة (مع صدور هذا العدد)، لم تكن تلوح في الأفق أية بوادر حلحلة، رغم المهلة الإضافية التي طلبتها خلية الأزمة الفرنسية بقيادة الرئيس ماكرون. فاللبنانيون اليوم، دخلوا من جديد دوامة المجهول، الذي قد يحمل في طياته نذر الفوضى وصولاً إلى الصراع الأهلي.
الحل المتاح حالياً، يتطلب انخراط الطبقة السياسية الإيجابي بعملية تأليف الحكومة، بمعزل عن لعبة الحصص والأسماء، وذلك من أجل وضع لبنان على سكة الإصلاح المطلوبة للحصول على مساعدات المجتمع الدولي.
لكن أيضاً لا يمكن إغفال الحديث عن المحاولات الأميركية–الخليجية الحثيثة لإقصاء «حزب الله» عن المشهد السياسي برمته، نظراً لمكانة الحزب الاستراتيجية كلاعب أساسي على الساحة الإقليمية.
وإن أبدى الرئيس المكلف أديب، عدم رغبته بالدخول في خلاف مع أي من المكونات اللبنانية وتحديداً مع الطائفة الشيعية، إلا أنه في الوقت نفسه يتمسك بوجهة نظره في تأليف الحكومة القائمة على أسس المبادرة الفرنسية، بأن تكون حكومة من الاختصاصيين المستقلين. فهل سيتمكن أديب الدبلوماسي الناجح من تذليل العقبات وتدوير الزوايا والنهوض بالمبادرة الفرنسية المترنحة؟
Leave a Reply