نفضت اميركا يوم الخامس من نوفمبر الجاري، غداة الفوز التاريخي لباراك اوباما، عن ثوبها الديموقراطي غبار الحملات الانتخابية او معظم ما علق به على مدى نحو سنتين. إلا ان مفاعيل وصول اول رجل اسود الى سدة الرئاسة الاميركية ستتواصل على مدى الاشهر والسنوات القادمة من عمر الولاية الرئاسية الاولى.
هذه المفاعيل لا تتصل بالضرورة بحدث الانتخاب بذاته وبلون بشرة المنتخب بقدر اتصالها بصورة اميركا التي تتغير والتي لم يكن وصول باراك اوباما الى الرئاسة سوى احد مظاهر هذا التغيير على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، او ربما اكثرها تجلياً.
ولعل من التبسيط ان نقارب عملية «التغيير» التي توجها انتخاب اوباما، فقط من ابواب الحملة الانتخابية وشعاراتها المرفوعة. فما فعله باراك اوباما هو احتلاله عن جدارة، لمقعد خال في مركبة جاهزة للانطلاق تبحث عن قائد يمتلك مواصفات موضوعة مسبقاً لأي رئيس اميركي في مطابخ المؤسسة الحاكمة التي تبدأ من هوليوود ولا تنتهي بجامعة هارفرد التي غالباً ما تصدر تأشيرات الدخول الى النادي السياسي الاميركي بما هو نادي النخبة القادرة على انتاج الاجيال الرئاسية والحفاظ على «نسلها» عبر العقود.
فباراك اوباما «المختلف» بلون بشرته لكن المشترك بثقافته السياسية مع اعضاء النخبة الحاكمة كان اقدر على اجتراح «معجزة» انتخاب اول رجل اسود بأكثر مما قدرت غريمته في الانتخابات التمهيدية هيلاري كلينتون على اجتراح «معجزة» انتخاب اول امرأة رغم انتسابها الى بيت سياسي يمتلك المواصفات المطلوبة للرئاسة كزوجة لرئيس سابق ليست غريبة عن البيت الابيض ولا تحتاج الى جولة تعريف بأروقتة وأجنحته مثلما احتاج باراك اوباما.
بالطبع لا يجب التقليل من حجم الانجاز الذي حققه سيناتور شيكاغو لعرقه الاسود ولا من اثر الصدمة التي شعر بها بيض كثر وغيرهم من سائر الاعراق الذين شككوا حتى اللحظة الاخيرة بامكانية فوز اوباما لاسباب «نفسية» ثبت بطلانها. فهذا الانجاز الذي اتاه اوباما يعكس، بلا أوهام، ان اميركا لم تعد حيث كانت، لكنها لم تصل الى بدايات هذه الحقبة من التغيير إلا بعد سنوات طويلة من السياسات الخاطئة لنخبتها السياسية الحاكمة التي ظلت تجد لنفسها الاعذار وتتجاوز غضب الناخبين واحباطاتهم بتبريرات وشعارات استنفدت اغراضها وواجهت في الانتخابات الرئاسية جمهوراً لم يعد قادراً على التسامح او راغباً به، وكان قد ارسل اولى اشارات امتعاضه وتصميمه على احداث التغيير من خلال الانتخابات النصفية للكونغرس في العام 2006 التي جاءت بأغلبية ديموقراطية مناهضة للادارة الجمهورية في مجلسي الكونغرس.
على ان انتخاب اوباما «الاسود» لا يكفل بالضرورة القول بأن آخر مظاهر العنصرية في المجتمع الاميركي تلاشت وهذه مسألة لها جذورها التاريخية والنفسية التي لا يمكن محوها بمجرد وصول رجل من عرق «مختلف» الى سدة البيت الابيض. إلا ان هذه العنصرية لم تعد من الاسباب الموجبة لانتخاب رئيس يعمل بـ«الدفع الثلاثي» الشهير: ابيض، انغلوسكسوني وبروتستانتي. فالمعضلة التي باتت تواجهها المؤسسة الاميركية الحاكمة بأفرعها المالية والثقافية والاقتصادية تخطت اعتبار ما يعرف اصطلاحاً بالـ«واي آي اس بي» في تحديد هوية الرئيس، الى النظر في مقدراته ومؤهلاته لقيادة دفة السفينة الرئاسية التي كاد بضع ربابنة رعناء من الطبقة السياسية الحاكمة، ابرزهم الرئيس جورج دبليو بوش ان يجنحوا بها نحو مهالك ومنزلقات خطيرة.
لقد اثبت نظام المؤسسة الديموقراطية الاميركية قدرة فائقة على اصلاح ذاته ولفظ ما يتهدده بالشلل والانهيار، وانتاج التغيير القادر على حفظ البقاء بصورة سلمية وسلسة، وهذه ميزة قلما تتمتع بها انظمة دولية تواجه ما واجهه النظام الاميركي في الاشهر القليلة الماضية، حيث يبقى الطابع السلمي للتغيير هو السائد، وبعيداً عن اي عنف يلازم ازمات من نوع الازمة التي دخل فيها هذا النظام الذي تتصارع تحت سقفه رؤى وافكار محافظة او شديدة المحافظة، واخرى ليبرالية او شديدة الانفتاح، الا انها لا تملك على السواء، القدرة على الخروج من الهيكل الديموقراطي الرأسمالي، لادراك اصحابها ان انهياره لن يوفر اياً من الرؤوس.
يمكن حسبان نتائج الانتخابات الرئاسية التي اطاحت بآخر احلام المحافظين الجدد في خانة «الثورة المضادة» التي قادها ناخبون متعددو الاعراق على رأسهم شريحة واسعة ومقررة من الناخبين البيض، وجدت نفسها الى جانب جيل من الشباب يندفع بحماسة غير مسبوقة الى صناديق الاقتراع، في عملية محاسبة تاريخية وقاسية لأحد جناحي المؤسسة الحاكمة المتمثل بالحزب الجمهوري على سلسلة الاخطاء والارتكابات التي اتاها خلال العقد المنصرم وانتجت بالتالي، الازمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تحاصر النظام الرأسمالي برمته وتتعدى الارض الاميركية الى ابعد اصقاع الارض.
كان الجمهوريون الذين اصطفوا وراء قيادة رونالد ريغان مطلع الثمانينات قد قادوا «ثورة» محافظة اجتاحت مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية انجبت مفهوم قداسة السوق وابعاد الحكومة الفدرالية عن المساس بذيله «الطاهر» والانصراف الى التمتع بأدائه وحراسته عن بعد. هذا الى جانب عبادة «قيم محافظة» على المستويين السياسي والاجتماعي، نفذ من خلالها ارباب السوء المتجلببون بأردية «الوطنية» والتي لامست حدود الشوفينية في تعاطيها مع العالم الآخر «السفلي» او «المادون اميركي»، وبرزت تجليات هذه الذهنية المدمرة في «الحرب على الارهاب» والتمهيد لغزو العراق بعد تقسيم العالم بين محوري خير وشر لا وسط بينهما. كانت هذه الذهنية قد تغذت على اعتداءات الحادي عشر من ايلول واتخذتها ذريعة لتحقيق اهداف غير معلنة في اجندة الحرب على الارهاب، وكانت مصالح الشركات العملاقة هي البوصلة شبه الوحيدة التي تؤشر الى وجهة سياسة الادارة الجمهورية، ولو على حساب صورة اميركا الناصعة في اذهان شعوب العالم من حدود جدار برلين المحطم امتداداً الى الديموقراطيات الوليدة في شرق اوروبا.
ثمة اسباب عديدة وعميقة ادت الى حدوث هذا التحول التاريخي في سيرة الديموقراطية الاميركية التي يزيد عمرها على المئتي سنة، وقد لا تكون الازمة المالية الاخيرة التي تشهدها اميركا ومعها العالم سوى القشة التي قصمت ظهر البعير.
فالتغيير في اميركا مفردة لا تغيب مع اي شمس والثقافة الاميركية زاخرة بسيناريوهات «اسطورية» اخرجتها المؤسسة الاكثر تأثيراً في بدايات تشكل وعي الاميركي العادي، وهي مؤسسة هوليوود.
ولم يكن وصول اول افريقي اميركي الى البيت الابيض سوى مصداقاً لواحد من السيناريوهات «الاسطورية» العديدة التي لازمت الوعي الاميركي على الدوام. صحيح ان هذا الوعي استفاق على «صدمة» انتخاب اوباما بوجهيها السلبي والايجابي، الا ان الوقت غير الطويل كفيل بتبديد اثار هذه الصدمة وامتصاصها.
الازمة المالية الراهنة، ربما اسمهت في تحقيق اوباما فوزه الكاسح على خصم جمهوري ظلت تطارده اشباح خطايا حزبه واخطائه حتى آخر لحظة من حملته الانتخابية. غير ان الرغبة الجامحة في التغيير كانت تلوح بوضوح قبل انفجار الازمة المالية وبانت ارهاصاتها ليس في الداخل الاميركي وحسب، بل على امتداد المسرح العالمي الذي لو شاركت شعوبه في هذه الانتخابات لجاءت النتائج اكثر ايلاماً للحزب الجمهوري ومرشحه البائس ونائبته الاكثر بؤساً.
لكن التغيير الذي حملته الانتخابات الى البيت الابيض واروقة الكونغرس ليس مجرد هبة شعبوية من ناخبين محبطين من سياسات الادارة الجمهورية، او هدية مجانية للخط الليبرالي الذي يقوده الحزب الديموقراطي. انه مسؤولية جسيمة القاها الاميركيون على الجناح الاخر من المؤسسة الحاكمة واضعين بين ايدي رموزه واقطابه وعلى رأسهم الشخصية الاكثر جذباً وكاريزمية باراك اوباما، تجربة محاسبة من الصعب التنكر لها او اغفالها حين التخطيط لسياسة الادارة الديموقراطية الجديدة.
ولعل من ابرز ميزات الرئيس المنتخب اوباما انه يمتلك ذكاءً ساعده على التقاط اشارات الرغبة في التغيير التي ملأت الفضاءين الاميركي والعالمي فاتخذه شعاراً لحملته وافلح في تسويقه لدى معظم شرائح المجتمع الاميركي لكن اوباما يدرك ان الاميركيين وحدهم هم ناخبوه.
ولذلك ينتظر من ادارته القادمة ان تولي الوضعين المالي والاقتصادي اقصى درجات الاهمية، وربما ادى هذا الادراك الى تراجع اميركا عن اكثر من بقعة ساخنه في العالم، والاستعاضة عن تدخلها المباشر والفج بتفاهمات مع حلفاء دوليين واقليميين.
هل يعني هذا الامر ان اميركا كقوة عظمى قد احيلت الى التقاعد المبكر؟ من الخطأ، بل من الخطورة بمكان الجزم بهذا الشيء، وبأن يغري الانكفاء الاميركي بعض الاعداء الدوليين على محاولة ترتيب او ترسيخ حقائق جديدة على ساحة النفوذ الدولي، بعيداً عن القدرة الاميركية على التدخل.
فالازمة المالية التي تعصف باميركا مثلما كانت احد اسباب التعجيل بحدوث التغيير الذي نحن بصدده، من شأنها، اذا اسيء تقدير مدى «الضعف الاميركي» ان تؤدي الى ردة فعل معاكسة تماماً لما يدور في خلد المتربصين بهذا «الضعف».
و«الماتادور» الغبي هو الذي يعتقد بأن الثور الجريح يستسلم لنصله ولن يهب لاهلاكه اذا طال المزاح عمق الجرح.
ألم يسبح العالم بدمه بعد الازمة المالية الاميركية والعالمية مطلع ثلاثينات القرن الماضي؟
أي مزاح «خارج عن النص» كفيل بأن ينسي العالم لون بشرة الرئيس الاميركي القادم.
لنتذكر مرة اخرى ان الرئيس «الاسود» هو احد الابناء النجباء للمؤسسة الاميركية الحاكمة بخيرها وشرها.
حذارِ الافراط في التفاؤل؟
Leave a Reply