محمد العزير
لن يطول الوقت كثيراً قبل التوصل إلى علاج، ثم إلى لقاح لفيروس «كوفيد–19». هذا ليس كلام أمنيات وأحلام في عالم اليوم. هذا منطق العلم الذي بدأت تباشيره بالظهور مع البدء في استخدام أول دواء يحد من أعراض الوباء في الحالات الأكثر خطورة (المسنون وذوو الحالات الصحية المزمنة). اسم الدواء «ريمديسفير» Remdesivir الذي انتجته شركة «علوم جلعاد» Gilead Sciences الأميركية واختبرته بالتعاون مع جامعة ستانفورد الشهيرة في كاليفورنيا الشهر الماضي، واثبت قدرته على وقف تمدد الأعراض وإزالة نحو 40 بالمئة منها.
المعنى الأبسط لهذا الاكتشاف هو انه على الأقل أول الخيط في فك رموز الفيروس كخطوة أولى للقضاء عليه. لن يقتصر الإنجاز العلمي على الجانب العلاجي، بل سيتبعه اكتشاف لقاح للوقاية منه، وهو ما تعمل عليه شركات ضخمة ودول ومنظمات عالمية تتعاون فيما بينها، للأسف في غياب الريادة الأميركية المعهودة التي أرداها الرئيس المهووس دونالد ترامب لحسابات نرجسية وانتخابية سخيفة. لكن العلم لن يتوقف على شخص حتى ولو كان رئيس أعظم دولة في العالم.
الوصول إلى لقاح نافع يختلف عن الوصول إلى علاج ناجع. إذ يستغرق إنتاج اللقاح فترة أطول بكثير معظمها تستهلكه التجارب المخبرية والسريرية على الحيوانات ثم على الإنسان، فضلاً عن الكميات الهائلة المطلوبة منه في حال ثبوت فعاليته في عالم يقترب عدد سكانه من الثمانية مليارات نسمة، ويتطلب اجراء اتفاقيات دولية وسيادية ومؤتمرات ومرجعيات لتأمين اللقاح للدول النامية والفقيرة.
الجواب على هذه المعضلة سيكون في العلم أيضاً. ستسمح الخريطة الجينية الشاملة باللجوء إلى إنتاج مصل من تعديلات جينية يكون أسرع من التقنيات السابقة التي تعتمد على الفيروس نفسه لصنع اللقاح. التقنية الجينية الجديدة يمكنها استنساخ مكونات الفيروس بسرعة أكبر، خاصة وأن وطأة الوباء خففت من الإجراءات البيروقراطية، مع الأخذ في الاعتبار أن الأبحاث الجارية الآن على مدار الساعة لا تنطلق من فراغ وإنما تبني على ما توصلت إليه المختبرات الغربية في السنوات السابقة في سياق البحث عن لقاحات الإنفلونزا، وخصوصاً إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير، والتي اوقفتها شركات الأدوية بقرارات خبيثة للمحافظة على أرباحها الهائلة من سوق علاجات الزكام والرشح الموسمية، وتلك قصة أخرى.
من يشك في ذلك يمكنه ان يطالع المعلومات عن مآلات فيروس نقص المناعة المكتسبة (الايدز) الذي لم يبق منه الآن سوى تلك الورقة التي توفرها المطاعم والمقاهي لتغطية مقاعد الحمامات.
لن يقتصر أثر الوباء الراهن على الدواء واللقاح، بل سيطال التغيير، الكثير من مناحي الحياة الشخصية والعامة في العالم. هذا موضوع يتطلب دراسات وكتباً ومجلدات، إلا أن عناوينها الرئيسة يمكن أن تختزل في خانات عامة، مهما كانت البراعة في الإيجاز لن تقدر على اختزالها إلى اكثر من أبواب عريضة للنقاش، ومنها:
1– في الحياة اليومية: ستأخذ التقنيات الحديثة مداها عبر أثير الإنترنت والتواصل الاجتماعي في العمل (حيث ما يقارب الثلاثين بالمئة من الأميركيين كانوا يعملون كلياً أو جزئياً من بيوتهم)، وفي التعليم، حيث ستكتسب الجامعات العاملة عن بعد مصداقية أكبر وتزول عنها الشكوك الراهنة بعد دخول جامعات مرموقة إلى ميدان التعلم عن بعد. وإلى درجة أقل سيتم استبدال اللقاءات الشخصية والمعاينات والاستشارات بجميع مضامينها القانونية والمالية والطبية والاستثمارية بلقاءات عن بعد عبر خدمات التواصل المرئي والمسموع.
2– في السياسة ستتنوع النتائج إلّا أن أبرزها سيكون في أميركا. انتهت الرقصة الرأسمالية المتوحشة التي بدأها رونالد ريغان مع مارغريت تاتشر في الثمانينات عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب المنافسة الأيدولوجية لنموذج «الرجل الأبيض». سيكون الوباء الداهم والذي صودف حلوله في عهد ترامب في أميركا وبوريس جونسون في بريطانيا وأحفاد فرانكو في إسبانيا وتلامذة برلسكوني في إيطاليا وجايير بولسونارو في البرازيل المشهد الكامل الأخير في العداء لحكومة الرفاه والأمن الاجتماعي. سينتهي الفكر المحافظ مرذولاً، تماماً كما انتهى الفكر القومي الشوفيني بعد الحرب العالمية الثانية.
3– ستعود الدولة كمؤسسة جامعة للناس، وفق نظرة جان جاك روسو ومن لحقه من مفكري التنوير عن العقد الاجتماعي، مكانتها ليس من منطلقات وطنية، على طريقة «أميركا أولاً» الترامبية، وإنما على المزاج الذي أسس للأمم المتحدة كملتقى للشعوب، والذي وضع إعلان حقوق الإنسان كغاية سامية.
4– ستخف الدعاوى الدينية، وخصوصاً الديانات الابراهيمية –اليهودية والمسيحية والإسلامية– فمن فلسطين المحتلة التي شهدت أكبر عدد إصابات بين اليهود المتشددين، إلى روما وأميركا التي أقفلت الكنائس التاريخية والعادية، إلى العالم الإسلامي الذي شهد للمرة الأولى في تاريخه الدموي الطويل اقفال الحرم المكي والحرم النبوي والمقامات المقدسة في إيران والعراق، رأى الناس بأم العين أنه بين العلم وبين الغيب، النصر للعلم، وما الغيب إلا متممات معنوية في حالة الرعب.
5– نهاية «نهاية التاريخ». بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي سارع ربيب المبشر بصراع الحضارات صموئيل هانتغتون، الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما إلى التبشير بنهاية التاريخ. كان فوكوياما في عنوانه يلمّح إلى فشل نظرية الحتمية التاريخية لكارل ماركس، وإعلان الانتصار الكامل للتراث المركنتيلي الأوروبي الأبيض، أي أن من يرجو النجاة عليه الالتحاق بركب الرأسمالية العارية فهي الدواء الناجع لكل العلل. تراجع فوكوياما بعدها بالتدريج عن نظريته، لكن ذلك لم يكن هو الحدث، الحدث كان في مكان آخر تماماً. كان في الصين الشعبية التي تخلصت من الماوية فور وفاة ماو، وبدأت في رفع ملايين البشر من تحت خط الفقر كل عام. لم يجد الغرب الرأسمالي رداً على ذلك حتى جاء الوباء، ولم يجد في الوباء سوى توجيه الاتهامات الملتبسة للصين بالمسؤولية. لم تنفع الحيلة القديمة. والوباء يفتك في أميركا والغرب بلا هوادة بينما بدأت الصين بالتعافي. هذا الدرس سيكون موضع بحث وتمحيص في جامعات الغرب ومراكزه الأكاديمية، لكن المؤكد أن نوعاً جديداً من التعاون الدولي سيفرض نفسه على الدول الكبرى والمتكبرة، وستكون المرحلة الثالثة من العولمة أكثر عالمية.
من السذاجة الاعتقاد بتلقائية هذا التحول الهائل، الذي سيفضي في نهاية المطاف إلى الزوال التدريجي للسيطرة الأوروبية العنصرية البيضاء على العالم والتي واكبت الثورة الصناعية واستغلتها بأبشع الصور ضد الطبيعة وضد شعوب العالم أجمع احتلالاً واستعماراً واغتصاباً ونهباً للبشر والحجر والموارد.
يحتاج التغير التاريخي بهذا الحجم إلى بعض الوقت ليتبلور، وبالطبع سيواجه مصاعب وتحديات من القوى المهيمنة على المشهد السياسي حالياً، القوى التي أتت بترامب إلى الرئاسة وأخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وعممت صورة الرجل القوي في الحكم وحوّلت شذاذ الآفاق من العنصريين والمتزمتين إلى نجوم سياسة ومراجع رأي عام، في العقد الثاني من الألفية الجديدة.
سيعجّل الوباء في دفع عجلة البشرية نحو الأمام، ولن تكون في يد «الرجل الأبيض» أوراق كثيرة ليلعبها، ولن يُخرج من كمّه أرانب تسحر الطبقات الأقل تعلماً والأقل تمدناً من الجمهور الأبيض الذي اكتشف هشاشة النزعات القومية والشطحات العنصرية أمام فيروس فضح المتباهين بتفوق مزعوم. لن يكون المستقبل للحروب الكونية، ولن يتاح لـ«الرجل الأبيض» أن يستخدم السلاح النووي لإخضاع الآخرين من جديد.
Leave a Reply