عماد مرمل – «صدى الوطن»
من برج البراجنة فـي الضاحية الجنوبية لبيروت، الى قلب باريس فـي فرنسا، مرورا بالطائرة الروسية المنكوبة والدول المنكوبة كسوريا والعراق.. إرهاب واحد عابر للحدود الدولية والأوهام السياسية التي كانت تجعل البعض يفترض انه يستطيع ان ينحني امام العاصفة.. حتى تمر.
البعض يعتبر انها «حرب عالمية» جديدة، والبعض الآخر يرى فـي ما يجري «عولمة للإرهاب».. قد تختلف التسميات والمقاربات، لكن الأكيد ان الخطر الداهم هو من النوع الوجودي الذي يهدد الحضارة الانسانية.
لقد ثبت أن السعي من قبل بعض القوى الدولية والاقليمية الى استثمار المجموعات التكفـيرية للضغط على الخصوم، أو لتحقيق مكاسب سياسية، هو رهان خاسر لا يمكن البناء عليه، وها هي الأحداث تُبين ان من يتهاون فـي محاربة الإرهاب، أو يغض الطرف عنه، لا يطاله «عفو» من الارهابيين، بل سرعان ما يدفع ثمن حساباته الخاطئة كما حصل فـي باريس التي كانت حتى الأمس القريب تركز فـي خطابها السياسي على المطالبة بتنحي الرئيس بشار الأسد، متجاهلة التهديد الاستراتيجي الذي ينطوي عليه تنظيم «داعش» وأمثاله.. الى أن وقعت المصيبة فـي عقر دارها.
إن ما حصل فـي فرنسا يجب أن يكون مدعاة لمراجعة غربية شاملة للاستراتيجية الرخوة والخبيثة فـي مواجهة الارهاب، ولعل «الحرب الناعمة» التي يخوضها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد فـي سوريا والعراق هي أكبر دليل على السياسات الغربية الملتبسة والمريبة التي كانت تحاول احتواء «داعش» وتوظيفه وليس استئصاله والقضاء عليه، وهذا ما يفسر أن «داعش» كان يتقدم على الارض كلما جرى استهدافه من طائرات التحالف!
يكفـي إجراء مقارنة سريعة بين حجم الضربات التي وجهتها موسكو الى المجموعات الارهابية خلال شهرين من بدء عملياتها العسكرية فـي سوريا وبين تلك التي وجهتها أطراف التحالف الدولي منذ أكثر من سنة، حتى يظهر فارق كبير فـي الكمّ والنوع، من شأنه ان يعزز مصداقية روسيا فـي مكافحة الإرهاب، ويطرح فـي المقابل الكثير من علامات الاستفهام والتعجب حول النيات الحقيقية لواشنطن وحلفائها.
لقد انتظرت فرنسا ان تُضرب فـي عمقها حتى «تستحقها»، وتعطي الأمر لطائراتها بشن غارات «حقيقية» على مواقع «داعش» فـي معقله الاساسي بمدينة الرقة السورية، بعد فترة طويلة من «السماح»، منحت هذا التنظيم الإرهابي فرصة للتمدد، ليس فقط فـي الشرق الاوسط بل حتى فـي العمق الأوروبي.
إن الحرب على الإرهاب ينبغي إن تكون منسقة وشاملة، تماما كما أن الإرهاب لا يفرق بين ضحاياه ويطال الجميع، وبالتالي فإن المطلوب من الدول التي تتراخى فـي مواجهته عسكرياً أو تفتح حدودها أمام عبور المنخرطين فـيه، أن تسارع الى تغيير نهجها قبل أن تفقد القدرة كليا على التحكم بأزرار اللعبة التي ستلتهم فـي نهاية المطاف كل من لا يزال يعتقد ان بإمكانه السيطرة عليها، وهذه تجربة «القاعدة» وأسامة بن لادن فـي أفغانستان غنية بالدلالات لمن يريد ان يستخلص العبر.
أما فـي لبنان، فإن الأجهزة الأمنية ومخابرات الجيش تواصل حربها الوقائية على الإرهاب، محققة انجازات نوعية، من دون أن يخلو الأمر من بعض الاختراقات المضادة كما حصل فـي منطقة برج البراجنة مؤخرا، على ان اللافت للانتباه بعد جريمة البرج هو التضامن الوطني الواسع وغير المشروط الذي سُجل مع أهالي الضحايا، من دون أن يكون مرفقاً بـ«ولكن»، خلافاً للخطاب الذي كان يُعتمد من قبل فريق «14آذار» فـي السابق، حيث كان يندد بالتفجيرات ثم لا يلبث أن يحمّل «حزب الله» المسؤولية عن وقوعها بسبب مشاركته فـي القتال فـي سوريا.
ويسجل للأجهزة الأمنية والإستخباراتية اللبنانية قدرتها، خلال وقت قصير جداً، على اكتشاف الشبكة الإرهابية المتورطة فـي الهجوم الانتحاري الأخير وتوقيف معظم أعضائها، وهو إنجاز اكتسب أهمية مضاعفة فـي ظل حالة الشلل التي تصيب المؤسسات الدستورية وتعطل محركات الدولة.
وإذا كان شائعاً فـي لبنان بأن الأمن السياسي هو شرط أساسي لتحقيق الأمن الميداني، فإن هذه المعادلة تغيّرت مع نجاح فرع المعلومات فـي قوى الأمن الداخلي والأمن العام ومخابرات الجيش فـي حماية الحد الأدنى من الاستقرار، وتمكنها من إحكام قبضتها على الكثير من الخلايا الإرهابية ورموزها القيادية، برغم حالة الانكشاف السياسي التي تعاني منه تلك الأجهزة بفعل غياب رئيس الجمهورية وغيبوبة الحكومة وضمور عمل مجلس النواب.
وبهذا المعنى، فان المؤسسات الامنية استطاعت انتاج نوع من «الدينامية المستقلة» التي سمحت لها ان تنأى بنفسها عن تداعيات الأزمة الداخلية وان تحقق ما يشبه «الإكتفاء الذاتي» على مستوى العمل التقني، بعدما نجحت فـي التعايش مع واقع انعدام الوزن فـي جسم الدولة، علما أن هناك من يقول إن الأجهزة الأمنية وجدت فـي «الشغور المُعمم» فرصة للتحرر من أعباء القرار السياسي الذي كان اتخاذه من قبل مؤسسات الحكم يتطلب جهداً ووقتاً، بفعل المناكفات التقليدية.
ومع تلاحق التطورات، بات واضحاً أن محاولة ربط التهديد الإرهابي الذي يتعرض له لبنان بتدخل «حزب الله» فـي سوريا لم تعد مقنعة، لاسيما بعدما أصبح العالم كله فـي مواجهة الخطر ذاته، الأمر الذي وضع فرنسوا هولاند مع «حزب الله» وفلاديمير بوتين وبشار الأسد وقاسم سليماني فـي خندق إضطراري واحد.. فـي انتظار أن ينضم اليه الآخرون من المكابرين لاحقاً.
Leave a Reply