من بلاء الدنيا وعقوباتها وجليل وقوع المكاره فيها من كثره الحاسدين وشرور الفاسدين، أمراء الحروب الداخلية قبل الخارجية ومن تبعهم من أزلام الميليشيات الذين جعلوا مرقد العنزة في لبنان، وكراً للذئاب والثعالب. شوهوا جماله وأحرقوا حقوله وقلوب الأمهات. كسروا عنفوان رجال أبوا أن يكونوا حزمة لأمراء الحروب والطوائف وبوقاً ناطقاً تمجيداً وحمداً لهم وبنكا بشريا لتحويل حروبهم الغير مقدسة.
القصص الحزينة، المؤلمة، مع التعتير والتهجير والقصف والخطف والتهديد والوعيد، جعلت ترك الوطن قدراً مقدوراً! لم ينقطع الزيف البشري بكل ألوان قوس قزح لبنان، عكس رغبة العدين المكرهين على ترك تراب غال اضطروا لهجره بعد إنسداد كل السبل للعيش في مرقد العنزة بأمان. وحدهم ملوك الطوائف والأحزاب، مشوا بحذر بين ألغامٍ زرعوها لتفجير وطن جميل صغير وادع. وحدهم نجوا كان الوطن يصغر وهم يكبرون، كقصورهم وأرصدتهم في البنوك. وحدها صورهم الكئيبة، العملاقة، بقيت مزروعة على المفارق والطرق والبنايات العالية تذكر الجميع أني هنا فلا تطمئنوا! هذا ما جنته الحروب العبثية على الحياة الهانئة في الوطن – لبنان – وجعلت الأسر والأفراد يهاجرون إلى أصقاعٍ مختلفة على الكرة الأرضية. أحياناً يهاجر وحيداً، حاملاً معه تعويذة أمه ودعا أبيه وقصاصة صغيرة من أثر الحبيب. أحياناً تهاجر العائلة بأكملها. يواجه المغترب القدر والصعوبة بالتقالم في أي بلدٍ حل فيه. لا يهجر وطناً غالياً هجره. يختم ذاكرته بالشمع الأبيض والأحمر والأخضر. بألوان علم الوطن. ويضعها قيمة في رقبته. ياله من نسيان عاطفي! ويا له من صلاة لا يمل من تلاوتها على مسمع الأولاد ومرآهم. أولاد ولدوا من رحم الغربة وكبروا في مجتمعات قيمها العائلية وعاداتها الإجتماعية تختلف عما نشأ وتربى عليها الوالدان. أولاد لا يشعرون ولا يدركون وليسوا على إستعداد للفهم ما هو الوطن! هذا الوطن الذي يروا صوره ممزقة. وأحياؤه مليئة بصور الزعماء والشهداء. شعوب تعيش ولا تحيا. تركض في مظاهرات الحماقة والعبث. العشرات يموتون، كل يوم تقريباً ولا أحد يبالي. أعداد رقمية على هامش الزمن! وتتسع المسافة الباردة بين الأهل والأولاد كل ينظر للأشياء من زاوية حادة، وخطوط موازية بعضها بعضاً. لا سبيل للإلتقاء عبثاً يقنع المهاجر ذاته إن «هنا» أفضل من «هناك» في الوطن، وأنى وجد مصدر رزقه فهو وطنه. خصوصاً إذا جاء المال، ونجح في الأعمال، مما ينسيه مرقد العنزة، وربما العنزة ذاتها وقد يرمي تعويذة الوطن من رقبته! لكن تبقى تربية الأولاد والبنات، والشد والجذب بين الغربة والوطن.
أولادكم ليسوا لكم. أولادكم أبناء الحياة، هكذا قال النبي على لسان جبران خليل جبران. وصدمة الأهل في تربية الأولاد هو الأسلوب. الأسلوب بين الماضي والحاضر، أسلوب الأم والأب والجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة، حتى الجار والجارة وكل القبيلة التي كانت تحكم سلوك الأولاد في الوطن. أما هنا في المهجر من يحكم الولد أو البنت في مجتمع كل من يا رب نفسه! البديل هنا عن العائلة: التلفزيون، الانترنت، التلفون الخاص، الأصدقاء والصديقات، الذين لا نعرف عنهم شيئاً. المدرسة التي كل ما فيها مناقص للتعليم والتربية والفهم. لا تعدو أكثر من دور حضانة لآلاف الطلاب، يجمعهم التناقض ويفرقهم التنافس على من يلحق الموضة والستايل وإقتناء الهواتف الجديدة وكل ما يلحق من كماليات فارغة، تفرغ العقل والقلب من الطاقة الخلاقة، لتحل اللامبالاة والفتور بالمشاعر كونهم ينتمون إلى حضارة غريبة عن الأب والأم. يصحو الأهل أخيراً على صوت المباراة، واللعبة الإلكترونية، انتهت مباراة العبث وسقط البعض من الأولاد، في متاهات الحياة والمتع الزائفة. ما من عربي مغترب إلا وتألم كثيراً وهو يرى بشاعة الصورة التي تعكسها تصرفات البعض من المراهقين: في المدارس على الطرقات، في المطاعم، في مجمعات التسوق الكبرى، ويكبر السؤال: أين الأهل؟ للأسف الكثيرون يعترفون ويقرّون بالعجز عن فهم هذه المخلوقات: الأولاد! البعض يمارس معهم كل الأدوار، بكل محبة وإقتناع. لكن بالقطارة وحسب ما يسمع وقت العمل الطويل، يريد المراهق مستمعاً جيداً لثرثرة وأحياناً لشكواه. يريد أهله معه يشاهدونه وهو يلعب مع فريق المدرسة في إحدى الألعاب الرياضية. أكثر الأحيان الأب: رجل الأعمال مشغول، تعبان، والأم إما عاملة وإما مع الصديقات، في العصرونيات والحفلات أو الجمعيات لحماية الأطفال الذين لم يولدوا بعد! يا له من سوريالي، خصوصاً الوازع الأخلاقي والديني.
البعض الآخر قد ينجح في احتواء الفتة او الفتاة تحت جناحيه أسلوب عصري في التربية، التفاهم والصداقة بين الأهل والولد. ماذا تكون النتيجة؟ سوء تفاهم وشجار وصراخ عند أي تجاوز للحدود حدود الولد في التصرف والعيش. هنا الأهل ليس لديهم أي حق بالإعتراض والتصويب. وإلا سيكون صديقاً متسلطاً متحكماً وغير صادق في وعوده ويُفسر خوف الأهل عليه نوع من الشك فيه. يكون الأهل في هذه الصورة تماماً كالأمم العربية في الأمم المتحدة. عليهم الحق دائماً وهم أسباب وبلاوي الكون كله وعليهم دفع الثمن.
تشعر بالأسى والمرارة حين ترى فتاة وديعة، تنقلت فجأة في وجه أمها كاللبوة المفترسة. يتطاير الشرر من عينيها وتتلفظ بألفاظٍ تتعجب الأم كيف تأتيها الجرأة وتنطقها. تحاول إحراج الأم بتصرفاتها أمام الأهل والزملاء وتوضع في موقفٍ لا تحسد عليه أمام المعلمات والصديقات في المدرسة. وبما أن حب الأم يتطلب قدراً كبيراً من الصبر والتأني ملفوفاً بالحكمة، تتقبل هذا التصرف الغير لائق من إبنتها وتبرر تصرف الإبنة المراهقة بألف مبرر، وتغفر للإبنة كل الأخطاء، وتعلقها على سن المراهقة وعلى رفاق السوء، وتفتقد الإحترام والعطف والبر الذي سبق أن قدمته لوالدتها زمان في الوطن، واللهف والترابط العائلي الذي نشأت في ظله طفلة.
وها هي تفتقده أما كما يفتقده العديد من الأجداد والجدات. هذه هي الغربة، وهذه ضريبة الهجرة. لا يمكن أن تربح كل شيء. إن الذين يهاجرون مرغمين يربحون أشياء ويخسرون أخرى. وإنه أفضل ألف مرة من أن يخسر الأهل القليل من دفاتر الشيكات والعمارات والأرصدة ويرضوا قليلاً بالحياة البسيطة الخالية من التكلف والعيش بوجهين بين هنا وهناك. حتى يكون لديهم الوقت الكافي لمد جسور العائلة بين الزوجة والأولاد والأقارب جميعاً إن وجدوا بكل رتبهم العملية والعلمية.
ويكون التركيز أكثر على هؤلاء المراهقين ونكفّ عن شتم الغربة والحنين القاتل للوطن المبني للمجهول دوماً والمقدر فيه الهجرة الظاهرة على كل مواطنيه.
Leave a Reply