محمد العزير
قد يكون من المبكر نعي المسعى الرئاسي لأول مرشح اشتراكي معلن في أميركا، عضو مجلس الشيوخ (عن ولاية فيرمونت) السناتور بيرني ساندرز، وطي صفحة حملته الانتخابية المميزة، بعد أن اجتمعت ضده كل مكونات مؤسسة الحزب الديمقراطي لصالح نائب الرئيس السابق جوزيف بايدن الذي انتشلت حملته المترهلة من انهيار محتوم، بعد الفوز المدوي لساندرز في ولاية نيفادا وإثبات قدرته على تشكيل غالبية ديمقراطية قادرة على استعادة البيت الأبيض من الرئيس الأحمق دونالد ترامب.
فقد قرن المرشحون المنسحبون إعلان تخليهم عن حملاتهم بالإعلان عن تأييد بايدن الذي حقق كل نجاحاته في عشية وضحاها بعد فشله في ثلاث جولات تمهيدية سبقت انتخابات ولاية كارولاينا الجنوبية التي مهّدت لانتصاراته في «الثلاثاء الكبير». وقد بات ساندرز يحتاج الآن، على الأقل، إلى معجزة لإنقاذ حملته وأحلام ملايين الشباب الأميركي في الحصول على تزكية الحزب الديمقراطي في الصيف المقبل، وتحتاج تلك المعجزة إلى تكتل التقدميين وهبة شبابية في الولايات المتبقية من الانتخابات التمهيدية والتي تضم حوالي ثلثي إجمالي المندوبين وأهمها نيويورك وفلوريدا وولايات الغرب الأوسط، إلّا ان هذا الاحتمال يشبه الاستحالة في ظل التصدي الديمقراطي الشرس لساندرز، ورفض المرشحة اليسارية الأخرى السناتور إليزابيث وورن عن دعمه بعد انسحابها الخميس الماضي، فيما دخل على خط التكتل الحزبي ضد ساندرز، ولو بشكل موارب، الرئيس السابق باراك أوباما، أكثر الشخصيات الديمقراطية شعبية في أميركا.
تلقى بايدن دعم «المؤسسة» الديمقراطية، وهو السياسي المحترف الذي أمضى سنوات طويلة في الكونغرس قبل أن يصبح نائباً للرئيس في عهد أوباما، ويحمل زوادة ضخمة من السيئات بنظر الشباب الديمقراطي ويساريي الحزب، أبرز ما فيها تزكية عضو المحكمة الدستورية العليا اليميني المتزمت كليرانس توماس، بعد أن كشفت تحرشاته الجنسية مساعدته السابقة أنيتا هيل، إضافة إلى تأييده لقرار غزو العراق، والموافقة على اتفاقيات تجارية مجحفة في عهود ديمقراطية وجمهورية، ودعوته العلنية إلى تقسيم العراق وفق خطوط الانتماء العرقي والمذهبي، وتعاونه مع سياسيين محابين للحركات العنصرية الفاقعة في أميركا، فيما أنظار الجيل الجديد في الحزب الديمقراطي تتطلع للبناء على سنوات رئاسة أوباما وليس العودة بالسياسة الديمقراطية إلى ما قبل العام 2008.
من السهل جداً رسم ملامح التحالف المعلن ضد ساندرز، وهو يتراوح بين الصهاينة من اليهود والمسيحيين وبين أصحاب المصالح المالية الكبيرة وقوى الضغط النافذة في واشنطن، والمستثمرين في سياسة الهويات الإثنية، وصولًا إلى كارتيلات الطبابة والأدوية والنفط. تجمعت كل تلك المصالح تحت مقولة إن أفكار ساندرز جيدة لكن أميركا غير مستعدة لرئيس اشتراكي وفوزه بترشيح الحزب الديمقراطي يعني التجديد لترامب.
ويبدو أن ماكينة الحزب الديمقراطي ممثلة باللجنة الوطنية للحزب التي حولتها هيلاري كلنتون عام 2016، كما تبين لاحقاً، إلى جهاز تابع لحملتها الانتخابية، وللمصادفة في وجه ساندرز نفسه، تعلّمت درس الحزب الجمهوري مع ترامب مع بعد التشبيه السياسي والشخصي بينه وبين ساندرز، فبكرت بالتصدي لـ«تمرد» ساندرز ووضعت خطة متكاملة لتطويقه كانت ثمرتها الأولى في «الثلاثاء الكبير». لكن، بعيداً عن النتائج المباشرة للانتخابات التمهيدية، ومن بعدها لانتخابات الرئاسة، لن يكون ترشح بيرني ساندرز مثل أية حملة انتخابية أخرى ينتهي بانتهاء التصويت وإعلان الخسارة. لا، هذا لن يكون مصير ساندرز في التاريخ الأميركي الحديث، بل سيكون علامة فارقة في السياسة الأميركية ككل. ومع بعد التشبيه أيضاً، سيكون دور ساندرز في مستقبل الحزب الديمقراطي مثل دور السناتور الجمهوري الراحل (عن ولاية أريزونا) باري غولدووتر (1909–1998) الذي شكل منعطفاً في تاريخ الحزب الجمهوري وحوّله إلى حزب عنصري أبيض، إبان ترشحه للرئاسة وخسارته أمام الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون عام 1964، لكنه ترك بصمات واضحة على الجمهوريين الذين أتوا من بعده من ريتشارد نيكسون إلى رونالد ريغان الذي طبق تعليماته العنصرية والفئوية، وصولًا إلى الانتكاسة التي يمثلها ترامب في هذه الحقبة.
ما بعد ساندرز لن يكون كما قبله. المسار الديموغرافي في أميركا يتمدد ولن تقوَى كل سياسات ترامب على إعادته إلى الوراء. وبصرف النظر عمن يكون الرئيس المقبل لأميركا سيكون على أميركا كمجتمع ونخب وأحزاب وحركات أن تجيب على الأسئلة التي طرحها ساندرز بشجاعته المشهودة، وستكون شاملة لسياسة أميركا الداخلية والخارجية على السواء. في الشق الداخلي:
1– هل ستبقى السياسة أسيرة المال؟ هل سيكون لأي ملياردير الحق في قنص أو الترشح لأي منصب معتمداً على أمواله فقط؟
2– هل ستبقى أميركا أغنى دولة في العالم تحرم مواطنيها من حق التعليم والسكن والطبابة باعتبارها من الحقوق الأساسية للإنسان؟
3– هل ستبقى الطبقة السياسية رهينة قوى الضغط خصوصاً النفطية منها دون اهتمام بالبيئة والاحتباس الحراري والاعتراف بالعلم في هذا المجال.
4– هل ستبقى سياسة الهوية الإثنية رديفة للمواطنة؟ (لم يحمل ساندرز مفردات الهوية الإثنية والعرقية في خطابه، لم يتحدث عن أفريقي أو لاتيني أو عربي أو آسيوي، بل تحدث عن الأميركي كمواطن له كامل الحقوق، وهذه مسألة استُغِلت ضده بخبث خصوصاً في أوساط الأفارقة الأميركيين الذين دخلوا جنة السلطة بعد الستينيات وصاروا جزءاً مقدساً من الفساد.)
5– هل للمرأة الحق في راتب مساوٍ للرجل؟
6 – هل سيبقى التعليم العالي حكراً على الأثرياء ويرتب على الفقراء قروضاً يفنون العمر لتسديدها؟
7 – هل سيتم السكوت عن كل الموبقات التي ارتكبها المستوطنون الأوروبيون بحق أهل البلاد الأصليين وبحق العبيد وحق الأقليات، أم أنه سيتم التعويض على الضحايا من قبل الذين يتنعمون في قصورهم وأملاكهم وشركاتهم على حساب أرواح ودم وتعب المضطهدين والضحايا؟
وفي السياسة الخارجية:
1 – هل ستبقى أميركا شرطي العالم لا تعترف بحق شعب غير شعبها، أم أنها ستتعامل مع الشعوب والدول من منطلق ندي بلا استعلاء ولا تلقين ولا تحفيز للطغاة؟
2 – هل ستبقى الرأسمالية العارية النظام الوحيد المعترف به بصرف النظر عن أوضاع وظروف الدول الأخرى؟ (طرح ساندرز في إحدى مقابلاته سؤالاً ملفتاً قال فيه: عندما أتى كاسترو إلى السلطة أمر بمحو الأمية فهل هذا القرار سيء أم جيد بالنسبة لكوبا؟).
3 – والأهم بالنسبة للقارئ العربي سأل ساندرز (اليهودي الأصل) إلى متى ستبقى أميركا تدعم بلا شروط حكومة عنصرية مثل حكومة بنيامين نتنياهو؟ هذا السؤال كان كافياً للدوائر الصهيونية النافذة جداً في الحزب الديمقراطي لتنقلب عليه، مع أن الملفت أن الإسرائيليين المقيمين في فلسطين شاركوا في الانتخابات التمهيدية وصوتوا له بالأكثرية، لأنهم على حد قول أحد الذين شاركوا في التصويت: لولا الدعم الأميركي اللامحدود لما كانت سياسة حكومتنا بهذه الوحشية.
4 – إلى متى تستهتر أميركا بالقانون الدولي ولا تلتزم بالاتفاقيات الدولة المتعلقة بالسلام العالمي.
هذه فقط بعض العناوين التي وضعها ساندرز على طاولة النقاش الأميركي والتي سيكون للإجابة عليها دور حاسم في أية انتخابات رئاسية من الآن وصاعداً.
ثمة ملاحظة لا تستحق الكثير من الكلمات إلى بعض العرب الأميركيين، وخصوصاً أنصار ترامب الذين أصبحوا فجأة مصادر للأرشيف التشريعي في أميركا بقصد الإساءة لساندرز والاختباء وراء مشاريع قوانين وقوانين كانت لصالح إسرائيل، ألا تستحون؟ ألا تخجلون من أنفسكم، وأنتم، باسم قضية فلسطين، تدعون الجالية للتجديد لترامب؟a
Leave a Reply