اتخذت اللجنة المشرفة على «متحف ديربورن التاريخي»، في 26 أيلول (سبتمبر) الجاري، قراراً قد يضع حداً للجدل المستمر منذ نحو عامين حول مصير تمثال رئيس بلدية ديربورن الأسبق أورفيل هابرد.
القرار لم يمر من دون خلافات وتعارض في وجهات النظر بين مسؤولي المتحف أنفسهم، إضافة إلى شرائح متعددة من السكان والطلبة الجامعيين، الذين انخرطوا في نقاش محموم حول مصير التمثال وملكيته واللوحة التعريفية الملحقة به، لاسيما حول ما إذا كان النُصب سيعامل كمجرد تذكار تاريخي أو كعرض تمجيدي لهابرد الذي عرف بمواقفه العنصرية ضد الأفارقة الأميركيين خلال حكمه الطويل للمدينة (١٩٤٢-١٩٧٨).
وفي اجتماع الثلاثاء الماضي الذي عقد للبت بمصير التمثال، أعلن مدير المتحف، جايك تايت -وبيده رسالة صادرة عن الدائرة القانونية في البلدية تفيد بأن أسرة هابرد قد منحت ملكية التمثال لكل من المدينة و«جمعية ديربورن التاريخية»- أن لدى المتحف مهلة 30 يوماً لاتخاذ قرار بشأن اللوحة التعريفية للتمثال البرونزي، مؤكداً أن التمثال سيبقى منصوباً في حديقة المتحف حتى العام القادم على الأقل، حيث سيصوت الناخبون في المدينة على مقترح يتم إعداده لزيادة ضريبة الملكية العقارية لتمويل ورشة توسيع وتجديد المتحف التاريخي، ليتسنى نقل تمثال هابرد إلى داخله. وذكر تايت أن عملية البناء برمتها ستستغرق نحو سنتين.
وكان تمثال هابرد قد نصب للمرة الأولى في 1989 أمام مبنى البلدية القديم (عند تقاطع شارعي شايفر وميشيغن أفنيو)، وقد تم رفعه وتخزينه في أحد المستودعات عقب بيع المبنى في 2015، ليعود ويظهر مرة أخرى في نيسان (أبريل) الماضي، بعد نصبه في الساحة الأمامية لـ«متحف ديربورن التاريخي»، قبل أن ينقل لاحقاً إلى موقع جانبي بعيداً عن أنظار المارة.
لا للتمجيد
وكان البعض من السكان والمنظمات الحقوقية المدنية قد طالبوا بإزالة النصب نهائياً، في إطار حملة احتجاج وطنية لإزالة الرموز والنصب العنصرية في أرجاء الولايات المتحدة، خاصة وأن هابرد اشتهر بمواقفه العنصرية ضد السود، حتى أنه اعتبر أحد أهم رموز الفصل العنصري في شمال الولايات المتحدة إبان حكمه المدينة.
وخلال الاجتماع، أعرب بعض الناشطين الجامعيين، وكذلك بعض أعضاء اللجنة التاريخية، عن قلقهم من أن تستغرق المسألة وقتاً طويلاً قبل أن يتم التعامل مع تمثال هابرد كقطعة أثرية وليس نصباً تمجيدياً له.
كما أبدى بعض الحضور والقيميين على المتحف، استياءهم من موافقة تايت على إدارج حفيدة رئيس البلدية الأسبق، سوزان هابرد، ضمن الجهات التي يتوجب نيل موافقتها لإجازة مضمون اللوحة التعريفية التي سترفق بالنصب، «لأنها لم تعلن يوماً إدانتها لمواقف والدها العنصرية».
وأكد بعض الطلاب في «جامعة ميشيغن-ديربورن»، مثل مايك وليا وجوردان، أنهم يريدون التأكد من أن «البلدية مسؤولة عن صورتها»، مطالبين إدارة المتحف بوضع التمثال «ضمن سياق تاريخي دقيق» وأن لا يكون عرضه تمجيدياً. وقالت جوردان (في إشارة إلى سوزان هابرد): لا أعتقد أنه من المناسب أن يكون بمقدور المانح تقرير ما سيكتب (في اللوحة التعريفية المرافقة للقطع الأثرية والفنية والتاريخية).. و«إنه لأمر غريب حقاً إذا أخذنا بعين الاعتبار التاريخ المثير للجدل لهذه الشخصية».
من ناحيته، أكد مساعد أمين المتحف أندرو كيرشر، على أنه يفضل أن تكون «اللوحة التعريفية شأناً خاصاً بالمتحف»، مشيراً إلى أنه تم في 2015 إقرار النص الذي ستتضمنه اللوحة التعريفية، وقال إن المتحف -وبشكل مقصود تقريباً- «أضاع الوقت لعدة شهور في النقاش حول تفاصيل ثانوية»، مؤكداً أن المتحف لا يسمح للمانحين الآخرين أن يساهموا في كتابة اللوحات التعريفية للقطع الممنوحة للمتحف.
وأبدى كيرشر ذهوله «لعدم وجود لوحة تعريفية بالتمثال المنصوب خارجاً»، لافتاً إلى أن إنجاز اللوحة سوف يستغرق أسبوعين ولكن المتحف قد يتجاوز مهلة الـ30 يوماً في حال لم تعجب اللوحة سوزان هابرد وقررت إجراء بعض التعديلات عليها.
بانتظار موافقة سوزان هابرد
وقد عارض تايت، تلك «الآراء المشحونة عاطفياً» متمسكاً بإضافة الحفيدة هابرد إلى قائمة القائمين على كتابة نص اللوحة وإجازته، مشيراً إلى أنه «لا يريد تسخين الأجواء في الوقت الذي تقترب فيه هذه المحنة من نهايتها». وأضاف أن «الديمقراطية تعمل بشكل أبطأ مما ترغبون».
مشاركون آخرون في الاجتماع، بينهم عضو اللجنة التاريخية في البلدية، العربي الأميركي محمد سيون، أشاروا إلى أنهم عاشوا في ديربورن إبان حكم هابرد، وتجادلوا مع الطلاب الحاضرين حول دقة اتهام هابرد بالعنصرية ومعاني الشعار الذي رفعه «الحفاظ على ديربورن نظيفة».
وأكد سيون على أن الرموز العنصرية المثيرة للجدل تستحق التخلص منها، ولكن الإزالة الشاملة للتماثيل ستكون بمثابة «محو للتاريخ».
وفي نهاية الاجتماع، أصدرت لجنة التاريخ، اقتراحاً بإطلاع سوزان هابرد على نص اللوحة التعريفية وضمان موافقتها لإجازته واعتماده في اجتماع الشهر القادم.
بدوره، أشار ديفيد غود، عضو اللجنة التاريخية وكاتب السيرة الذاتية لهابرد، إلى أن النُصب -الذي كان معروضاً أمام مبنى البلدية القديم- كان قد تضمن لوحة تعريفية تتجاهل أية إشارة إلى المواقف والآراء العنصرية لرئيس البلدية الراحل، مؤكداً أن تلك اللوحة التعريفية ما تزال بحوزة البلدية.
وقرأ غود نص اللوحة المقترح، والذي تمت الموافقة على صيغته الأولية في 2015، وجاء كالتالي: «أورفيل هابرد (1903-1982) كان رئيساً لبلدية ديربورن لـ15 فترة منذ 1942 حتى 1978. هو واحد من أكثر رؤوساء البلدية حكماً بدوام كامل في الولايات المتحدة. ولد قرب مدينة يونيون سيتي بولاية ميشيغن، وخدم في سلاح البحرية منذ ١٩٢٢ وحتى 1925 وتخرج من «كلية ديترويت للقانون». استقر في ديربورن، وقد ترشح للمناصب العامة تسع مرات دون نجاح، قبل أن يصبح رئيس البلدية».
وتتضمن اللوحة المقترحة أيضاً، أن هابرد لقّب بـ«الزعيم السياسي» وكان شخصية قوية ومثيرة للجدل وقد تمكن من الفوز بإعادة انتخابه بهامش كبير رغم كونه طرفاً في محاكمات وتحقيقات ومحاولات لتنحيته أمام المحاكم المحلية والفدرالية بتهم انتهاك الحقوق المدنية.
كما تشير اللوحة إلى أن هابرد كان يقرّ علناً بأنه من أنصار الفصل العنصري، وقد نال اهتماماً وطنياً سلبياً بسبب آرائه العدائية ضد الأفارقة الأميركيين.
وتورد اللوحة كذلك إنجازات هابرد الذي نجح بتوفير أفضل الخدمات لسكان المدينة (أفضل خدمة عامة في العالم) مع الإبقاء على ضرائب الملكية منخفضة، مستنداً إلى الضرائب من شركة «فورد» للسيارات والشركات الأخرى، وقد أنشئت في عهده مرافق متميزة في ديربورن، مثل المدارس والمنتزهات العامة، ومنتزه كامب ديربورن، ومكتبة هنري فورد المئوية، والمشاريع السكنية لكبار السن، إضافة إلى شراء مبنى للمتقاعدين في فلوريدا (تم بيعه إبان الأزمة المالية الأخيرة).
رحلة البحث عن العرب الأميركيين في «متحف ديربورن التاريخي»
إن غياب التمثيل الصحيح للعرب الأميركيين في مؤسسات بلدية ديربورن، لا ينطبق فقط على الشرطة والإطفاء والمباني وسائر الوظائف الرفيعة، بل تبين أنه ينطبق أيضاً على «المتحف التاريخي» للمدينة، حيث يكاد يغيب أي أثر للجالية العربية التي يشكل أبناؤها اليوم حوالي نصف سكان ديربورن.
«صدى الوطن» زارت المتحف المطل على شارع ميشيغن أفنيو في غرب المدينة، وذلك في إطار تحققها من مصير تمثال رئيس البلدية الأسبق أورفيل هابرد، الذي -ورغم إرثه العنصري- وجد لنفسه اهتماماً واسعاً وموطئ قدم في المتحف، في حين لا يمكن للزائر أن يلمس دليلاً واحداً على وجود العرب الأميركيين في المدينة ودورهم التاريخي في تشكيل حاضرها، سوى في ملف واحد يحتوي بعض الصور في قسم الأرشيف.
وأمام التهميش الواضح للعرب الأميركيين في مختلف مؤسسات المدينة التي يتغنون بوصفها عاصمة لهم في الولايات المتحدة، تنشغل إدارة المتحف التاريخي اليوم في إيجاد المكان الملائم لتمثال هابرد البرونزي، الذي أثير حوله الكثير من الجدل في الآونة الأخيرة، لما يرمز إليه من عنصرية وقحة ضد السود في زمن الفصل العرقي، فيما يفتقد المتحف اليوم لأية معروضات خاصة بالعرب الأميركيين وقصتهم في ديربورن.
وإذ ينشغل المسؤولون في إيجاد الموقع المناسب للتمثال البرونزي داخل المبنى التاريخي بتمويل من دافعي الضرائب في ديربورن، يتساءل المرء عما إذا كانت بلدية ديربورن بمختلف مؤسساتها ودوائرها جادة فعلاً في محو آثار ومخلفات الماضي العنصري البغيض الذي مثله هابرد، أم أنها تسير على خطاه بشكل أو بآخر!
ولعل أصدق تعبير عن حال العرب في ديربورن والعنصرية المبطنة التي يعانون منها، ما جاء في قصيدة بالانكليزية ألقتها الشاعرة العربية الأميركية الشابة ياسمين في السادس من أيلول (سبتمبر) الجاري بعنوان «العنصرية تبتسم على ساوث برايدي»، في إشارةٍ إلى اسم الشارع الذي يقع عليه المتحف التاريخي بالقرب من تقاطع شارع ميشيغن أفنيو في الوسط التجاري لغرب ديربورن.
ومما جاء في مطلع هذه القصيدة:
يتكدس الدخان في الـ«ساوث أند»
وفي الشرق، أوراق عريشة جدي تجتاح
وأشجار السنديان العظيمة في الغرب
ترمي أورقها على قدمي
ويهمس بأذني تمثال برونزي بكلمات جدتي: عبد الصحراء
أين العرب؟
من خلال التجوال في أروقة المتحف التاريخي -وهو أقدم مبنى في ديربورن حيث كان أحد المباني الـ١٣ في ثكنة عسكرية شُيّدت خلال القرن التاسع عشر- يمكن للزائر أن يسافر قليلاً عبر الزمن للاطلاع على بعض خبايا المدينة من خلال الصور والمعروضات الموزعة في أرجاء المكان، ولكن لا يمكن للزائر إلا أن يلاحظ غياب أي وجود للعرب الاميركيين، وكأنهم لم يستقروا يوماً في هذه البقعة من الأرض.
الإداريون في المتحف برروا لـ«صدى الوطن» ذلك بأنهم يواجهون تحديات عديدة في استعراض قصة العرب الأميركيين.
وفي المقابل لم يأل المتحف جهداً في إظهار واستعراض تاريخ ديربورن إبان الحرب العالمية الأولى في إطار ذكراها المئوية، وهي الفترة التي شهدت تحولات كبرى في المدينة أبرزها افتتاح هنري فورد لمصنع ريڤر روج الذي أسهم في تشكيل صورة ديربورن التي نعرفها اليوم، بحسب مساعد مدير المتحف، أندرو كيرشر.
وفي رحلة البحث عن أثر العرب في المتحف، هناك درج يصل إلى قسم الأرشفة في الطابق العلوي ويحتوي على خرائط وكتب مدرسية قديمة وسجلات تفصيلية لـ«دليل بولك» الذي يستخدمه الزوار للبحث عن أصولهم وتاريخ عائلاتهم ومنازلهم وأملاكهم التاريخية في المدينة.
أخيراً تم العثور على الأثر الوحيد الظاهر لوجود العرب الاميركيين في ديربورن، وهو ملف من الحجم المتوسط كتب عليه كلمة واحدة هي: «العرب»، ويتضمَّن الملف مجموعةً من الصور يعود أقدمها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وصوراً لأفراد ومناسبات من بينها تظاهرة ضد الغزو الاميركي للعراق أمام مبنى البلدية، وصوراً قديمة للمقر الأول للمركز العربي للخدمات «أكسس» في الـ«ساوث أند».
هذا هو كل تاريخ العرب في متحف ديربورن التاريخي!
لماذا؟
حاول المتحف التاريخي في الأسابيع القليلة الماضية أن يعزز من محاولات التواصل مع الجالية العربية الأميركية من خلال طبع الف منشور باللغة العربية عن المتحف وذلك من خلال هبة مالية قدمتها «مؤسسة ديربورن كومينيتي». ولكن رغم هذا الجهد تحدث كيرشر عن «تحديات كبيرة تواجه المتحف من ناحية قربه من «متحف هنري فورد» و«المتحف العربي الأميركي الوطني» الذين يستقطبون السواح والسكان المحليين بمن فيهم العرب الأميركيون.
وأكد كيرشر «أن المتحف التاريخي أقام معارض في الماضي تظهِر تاريخ العرب الأميركيين مستخدماً محتويات استعارها من المتحف العربي الأميركي ولكن من الصعب إيجاد معروضات فنية -لا صوراً فقط- يمكن التبرع بها للمتحف وعرضها لتعبر بشكل مميز عن قصة وتاريخ العرب في المدينة».
وتابع أن غياب المعروضات الخاصة بالعرب من جهة، وإحجامهم عن التبرع والزيارة من جهة أخرى، هو بمثابة «حلقة مفرغة نعمل على كسرها».
وأشار كيرشر إلى «وجود عدد قليل أو انعدام وجود المتطوعين العرب الاميركيين، مع وجود عضو واحد من أصول عربية في اللجنة التاريخية للبلدية، وهي الجهة المشرفة على المتحف، لافتاً إلى وجود «اهمال في صيانة المبنى» فيما يعاني المتحف من شح التمويل الذي يعيق تسويقه وتعزيز حضوره.
ويعمل المسؤولون على طرح استفتاء على الناخبين في ديربورن العام القادم للتصويت على مقترح بزيادة ضريبة الملكية العقارية لتمويل مشروع توسيع وتجديد المتحف وختم كيرشر بالقول «نحن أصغر دائرة بلدية، وعندما تكبر الميزانية وتصبح المساحات متاحة يعتزم المتحف اقامة معارض دائمة تحقق ما يصبو إليه الزائرون».
Leave a Reply