ربما كان سعد الحريري الأكثر غبطة من بين السياسيين بخطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله الذي استطاع فيه أن يدغدغ مشاعر الحريري الإبن وصولا إلى الشارع الذي يمثله عندما رفع اسم رفيق الحريري “شهيدا” و”رمزا” على مطار بيروت الدولي وجعله القاعدة التي تقرر إطلاق الصواريخ على مطار “بن غوريون” وتدميره..
فلا شك بأن ذلك المقطع من خطاب السيد قد فعل فعله في قلب الحريري الذي تمنى في قرارة نفسه أن يكون صحيحا، بالرغم من الموقع النقيض من المعادلة الذي يحتله الحريري على المسرحين السياسيين اللبناني والدولي. ولكن هل يعي الحريري حقيقة كونه رئيس وزراء لدولة أصبحت من القوة بمكان يجعلها في مصاف القوى الأولى في المنطقة؟
بالطبع فإن الحريري يعلم ذلك، ويعلم أيضا أنه لا يملك من تلك القوة إلا بمقدار ما يستطيع إنجازه مديرعام الأمن الداخلي أشرف ريفي أو رئيس فرع المعلومات وسام الحسن، فهو يجد نفسه ربّاناً لطائرة يجلس في قمرة قيادتها ويتلقى الأوامر من مساعديه، ينظر إلى الأجهزة المعقدة المحيطة به من غير أن يلمسها أو يكبس زرا من أزرارها. أقلعت به الطائرة من غير أن يعلم وجهتها ومتى عودتها لتحط بمطار والده (الشهيد رفيق الحريري). حكمت عليه الظروف بأن يكون زعيما سياسيا تهتف باسمه الجماهير وترفع صوره العملاقة في الجادات والساحات قبل أن يكتمل وعيه السياسي وقبل أن تنضج خبرته التي اقتصرت على إدارة الشركات التجارية العملاقة… وفي فترة متوسطة راكم خبرة لا بأس بها من العمل السياسي بعد دخوله الندوة البرلمانية عام 2005 وحتى 7 حزيران 2009 عندما توج حياته السياسية بانتصار انتخابي كبير، للمفارقة أنه أدى إلى خسارة أكبر والى انهيار لكل المنطق السياسي الذي تبناه الحريري طيلة الأعوام الأربعة التي سبقت الانتخابات. بالنتيجة، ربح الحريري الانتخابات، فانهارت “14 آذار”، وخسرت الأكثرية، وفاز الحريري بمنصب رئيس الحكومة بعد مخاض عسير، حيث بدأت الملامح الجديدة لـ”رجل الدولة” تظهر تباعا لتكشف الاختلاف الجذري في الأداء السياسي وفي الآراء السياسية التي كان يلهج بها الحريري النائب وهجرها الحريري الرئيس الذي لمس الفرق بين موقعيه السابق والحالي، وما يحتمه عليه الأخير من مقاربات وحلول وتسويات بعكس التيار وبعكس الرياح الجماهيرية.
في مقتبل التسعينات وبعد أول انتخابات نيابية بعد اتفاق الطائف عام 1992، أتى الرئيس رفيق الحريري على رأس الحكومة في عهد الرئيس الياس الهراوي، وافتتح عهده بصدام مع المقاومة وبمساجلات علنية بينه وبين قيادتها، واستمر الخلاف الحاد بالرؤية السياسية والممارسة العملية للحكم في أروقة مجلس الوزراء حتى الانتخابات النيابية الثانية عام 1996 حين بلغ الخلاف أشده عندما عمل الحريري على إضعاف “حزب الله” من خلال لعب ورقة الرئيس بري، وتم نزع مقعدين نيابيين من “حزب الله” في دائرتي بيروت وبعبدا. تحقق ذلك للحريري الأب لأنه كان يناصر أحد الفريقين الشيعيين على الآخر، وكان يمسك بورقة الدعم السوري من خلال غازي كنعان وعبدالحليم خدام، وعندما تغيرت موازين القوى في عهد الرئيس أميل لحود عام 1998، جلس الحريري في غرفة الانتظار بعد أن سدت العاصمة السورية الباب بوجهه وتملصت من استقباله على أثر الأزمة التي نشبت بينه وبين الرئيس لحود على خلفية احتساب الأصوات النيابية التي سمته رئيسا للحكومة. كان ذلك بفعل المواجهات التي خاضها الحريري بوجه كل من الرئيس نبيه بري و”حزب الله”. فالأخير لازالت نكسة عام 1996 تعتمل في نفسه، إضافة إلى عدم الرضى عن كل السياسات الاقتصادية والإنمائية التي كان يتبعها الحريري، والرئيس نبيه بري خير متربص عند كل منعطف، ومعركة التمديد للرئيس الياس الهراوي عام 1995 لم تزل آثارها موجودة، إضافة الى سيل من المواجهات في ادارة الدولة ومرافقها الحيوية. وبعد عودته الى رئاسة الحكومة إثر انتخابات نيابية ظافرة عام ٢٠٠٠ وجد الحريري صعوبة الحكم بدون أحد الظهيرين الشيعيين، فسعى إلى نسج علاقات مع “حزب الله” من تحت الطاولة لم يستسغها الرئيس بري، ولم يكن على علم بكل تفاصيلها إلى أن تم الكشف عن اللقاءات السرية التي كانت تتم بين الرئيس الحريري والسيد حسن نصرالله.
واليوم يعلم الحريري الابن بأنه لا سبيل للاضطلاع بدور والده إلا من خلال جبهة شيعية هادئة لا يشوبها أي توتر، مع العلم بأن الابن قد فقد الكثير مما كان لأبيه من رعاية سورية مباشرة من عام 1992 إلى 1998 كان لها الفضل الكبير في تذليل معظم العقبات التي اعترضت طريق الحريري الأب.
في الوقت عينه، يحاول “حزب الله” التوطئة لحكم الحريري الابن مقدما له كل التسهيلات وكل الدعم المعنوي والسياسي، وذلك ضمن قالب جاهز قد أعد مسبقا في أروقة الدول الاقليمية شرط التزام الحريري بنقطتين مركزيتين: تحييد المقاومة وسلاحها عن المساجلات الداخلية، والحفاظ على التوازانات الطائفية في ملاك الدولة وإداراتها وهي النقطة التي تؤدي الى عنوان أساسي وهو التوافق.
يسعى “حزب الله” من خلال ذلك إلى جعل الحريري الابن يأخذ دور الحريري الأب في الفترة الأخيرة من حياته عندما خاض معركة صامتة مع الأميركيين على خلفية إدراج المقاومة على لائحة الإرهاب الأوروبية، وقد بدأ هذا الدور بالظهور والتبلور من خلال كلام الحريري في تركيا وفي فرنسا وفي روما وفي كل مناسبة يُسأل فيها عن “حزب الله” وعن اسرائيل، وهو ما يختصره أحد النواب المقربين من سعد الحريري بالقول: “حزب الله يريد جعل الحريري وزير خارجيته”.
قد ينجح “حزب الله” في ذلك بمساعدة جملة من العوامل الداخلية والاقليمية، وقد يفشل نتيجة نفس العوامل. والأمر الوحيد الثابت في الأذهان حتى اللحظة هو خطاب السيد حسن نصرالله الذي لم تزل أصداؤه تتردد بين مطاري رفيق الحريري و”بن غوريون”. فمن يُسكت سمير جعجع عن الكلام، ومتى يبدأ تأفف الحريري منه؟
Leave a Reply