يثبت التيار “الزرقاوي” يوماً بعد يوم بأنه يعيش غربةً موحشة كغربة سيده المصطاف الدائم، خصوصاً بعدما فقد السلطة، فشن حرباً شعواء فاشلة على نجيب ميقاتي في يوم الغضب، ثم تورط بالتآمر على سوريا – وها هي آماله تذهب اليوم أدراج الرياح، فانعدم توازنه وقطع كل جسوره وحرق كل مراحله، ليس مع أقطاب السياسة في لبنان فحسب، بل مع كل صلة بالواقع والحقيقة التي وضعها شعاراً له.
آخر إنجازات هذا التيار العبقرية تعليقه على جريمة القتل المروعة في محلة “رأس النبع” التي ذهب ضحيتها سبعة أفراد هم عائلة علي الحاج ديب من بلدة عرمتى، بينهم الوالدة وستة أولاد ونجا منها فقط الوالد المفجوع الذي سيموت كل يومٍ مئة ميتة خصوصاً إذا أثبتت التحقيقات أن ابنه البكر، هادي إبن الخامسة والعشرين من العمر، قد إرتكب مجزرة إعدام عائلته رمياً بالرصاص.
وبدل أن يعرب تيار “المستقبل” عن أسفه وتعاطفه مع ذوي الضحايا. نراه يعلن عن تشفيه وحقده في دلالة ذات مغزى تتعلق بهوية الضحايا ثم يحورالفاجعة العائلية إلى سياسية تستهدف المقاومة. إلى هذا الدرك وصل بهم الأمر؟! فقد ذكرت الصحف أن كتلة “المستقبل” النيابية إعتبرت أن سبب المجزرة هو “انتشار ثقافة السلاح والمسلحين والاستقواء على الدولة والتفلت من القصاص والعقاب والتي تسبب بها حزب السلاح والمسلحين”، مضيفة أن “الدليل هو تكرار حوادث الاشتباكات المسلحة واستخدام السلاح والقوة في المناطق التي يسيطر عليها هذا الحزب أكثر من أي منطقة أخرى”. فلنضع، يا سادة يا كرام، هذا التحليل على مبضع التشريح العقلي والمنطقي.
أولاً لنبدأ من الآخر، فمنطقة رأس النبع ليست موجودة جغرافياً ضمن سلطة الضاحية الجنوبية التي يعتبرها التيار خاضعة لسيطرة حزب السلاح (يا عيب الشوم على هكذا تيار يسمي المقاومة، التي حمت لبنان بدماء شهدائها وشرفته مع أمثاله، بحزب السلاح)، إلا إذا إعتبر تيارالمستقبل، وهذا الأرجح، أن وجود عائلة من بلدة عرمتى العاملية المناضلة هو إمتداد لحزب المسلحين!
ثانياً، ما هي ثقافة السلاح هذه التي يتحدث عنها الزرق، ومعلمهم بذل ملايين الدولارات على الشركات الأمنية التي لم تصمد ساعاتٍ قليلة عندما جد الجد في ٧ أيار، ثم من لا يملك سلاحاً في لبنان اليوم؟
ثالثاً، لماذا لم ينطق “تيار لبنان أولاً” (لكن هذا لا يمنع خالد الضاهر من التحريض على الجيش اللبناني من أجل العبور إلى الدولة) بكلمة حول ثقافة السلاح في تشرين الثاني عام ٢٠٠٩ عندما أقدمت غريس جلخ من قرية بحرصاف، جارة بلدة العائلة المالكة بكفيا، على قتل بناتها الثلاثة ثم قامت بالإنتحار؟ ربما، لأن التيار الخبير بالمشاكل الإجتماعية والنفسية لاحظ أن الأم قد استخدمت السم بدلاً من البندقية التي استعملها الجاني في رأس النبع. كذلك، لم ينبس التيار الأزرق ببنت شفة عندما أقدم والد في شهر تموز من العام نفسه، على تسميم ولديه. لماذا لم يتحدث الزرقاويون عن ثقافة الموت أو ثقافة التسمم التي تفاقمت عبر سياسة الإفقار والتجويع التي اتبعتها حكومات فؤاد السنيورة المتعاقبة وأدت إلى معضلات معيشية وضائقات مالية هي عادةً ما تكون السبب الرئيسي في إنهيار القيم والوازع عن إرتكاب الجرائم والإنتحار؟ تحدث هذه الجرائم في كل المجتمعات الغربية، وكانت مجتمعاتنا العربية، الإسلامية والمسيحية، محصنة نسبياً (نرجو أن لا يزعل وليد جنبلاط من كلمة النسبية) لكن هذا الغشاء بدأ يتهاوى وبدأت مجتمعاتنا تعاني من نفس مشاكل الغرب بعد فشل ذريع لوعود الربيع وحل مشكلة الإنماء والماء والكهرباء حتى إذا جاء وزير صاحب ضمير من أجل وقف الفساد والهدر وإنارة بلد النجوم، وضع له السنيورة وجوقته العراقيل كما يفعل اليوم إزاء الوزير باسيل، فقط حتى لايقال أن التيار الوطني الحر قد نجح في إنهاء لغز الكهرباء!
كان حرياً بالحكومات المتعاقبة أن تجد الأسباب الحقيقية الكامنة وراء جرائم تهز الضمير والوجدان كما حدث في رأس النبع. ولربما الفقر، بأنواعه، هو السبب الرئيسي في هذه المصائب. لهذا قال الإمام علي (عليه السلام) “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، فلبنان اليوم يقع تحت خط الفقر رغم وجود الخادمات السيريلانكيات والسيارات والموبيلات وضياع الأحد عشر مليارات (دولارات) من قبل السنيورة، والفساد الإداري فيه هو الأكبر في العالم، وضغط المعيشة وقلة الخدمات وفقدان شبكة الأمان الإجتماعي من دواء وإستشفاء وضمان نهاية الخدمة والشيخوخة يدفع الكثيرون إلى اليأس والقيام بأعمالٍ مجنونة لا تحمد عقباها. وللأسف، حتى الكوارث الإنسانية تصبح مادةً للسجال الداخلي كما حصل مع التيار الزرقاوي بدل أن تدفع الساسة والكتل والأحزاب إلى التحسر والندم والتوحد من أجل محاولة البحث الجدي عن الحلول. في كل دول العالم المصيبة تجمع، أما في شبه الكيان فالمصيبة تفرق!
قلوبنا تتقطع على حزن المفجوع علي الحاج ديب، هذا الحزن الذي لا يتصوره عقل، ونحن نشعر بمصابه الجلل كما شعرنا بمصيبة قتل ابنائنا غدراً في هذه الجالية العربية الأميركية، مثل المرحومين عادل قبيسي وحسن عبدالله وحسن مصطفى زيدان. خسارتنا في هذه الأرواح الطاهرة لا تعوض إلا أن لا شيء يعادل إحساس الأهل بالخسارة ولا سياسة أو تعويضاتٍ حكومية في العالم أو تعليقات زرقاوية تحريضية شامتة، تعوض على المثكولين فلذات أكبادهم.
Leave a Reply