وقوع مجزرة حقيقية في منطقة زقاق البلاط في لبنان أمرٌ ليس بالهين وأكثر من خطير في بلد صغير، خصوصاً أنها حصلت على بُعد مرمى حجر من السراي الحكومي وسوليدير (درة التاج الحريري) وسط البلد. ذلك أنَّ هكذا جريمة يرتكبها فتى، هو علي محمَّد يونس، لم يتجاوز عمره 14 عاماً يردي فيها والده الذي خلَّفه وربَّاه مع شخصين بريئين لا ناقة لهما ولا جمل، قد تحدث في بلد غربي مثل أميركا التي يقطنها 350 مليون من كل أصناف البشر والطباع والخلفيات لا كشبه بلدٍ يصلح كجزيرة صغيرة في الولايات المتَّحدة من حيث الجغرافيا وعدد السكان!
وبالطبع مرَّت هذه المذبحة لدى وحوش السياسة في لبنان مرور الكرام فلم تستوقفهم فظاعتها ووحشيتها حتَّى لا يُسألون عن السبب والنتائج وماذا فعلوا للمواطن لكي يتفادى تكرارها نتيجة الوضع الاقتصادي والمالي البائس والترهل الإجتماعي والأخلاقي الناجم عن تدني المواطنية المسؤولة بسبب الفساد والتردي والسرقات والمخالفات في الدولة منذ الانتهاء المزعوم للحرب الأهلية عام 1989. لم يفتح نائب واحد أو مسؤول في الدولة نكاد نسمع نعيقه كل يوم، «باجوقه» لكي يصرِّح بكلمة ولو صغيرة عن هول جريمة زقاق البلاط وكأنها حدثت في عالم آخر. في الدول التي تحترم نفسها رؤوس حكومية تطير ولجان تحقيق تُؤلَّف وإجراءات طارئة تُتَّخذ لمنع هكذا جرائم، لكن لم يحصل مثل هذا في لبنان!
ففي شبه الوطن، وحوش المال والسياسة منفصلون عن الواقع. الشعب آخر همهم، وكذلك لقمة عيشه وتدني مستوى معيشته وتفكك أسره وانحلال مجتمعه بسبب الضائقة المالية. كل هم وحوش المال منصبٌ على أُسرِهِم وبالاخص على تسوق زوجاتهم لآخر الموضات وعلى أولادهم وكيفية تعليمهم في الخارج واستملاكهم للثروات الطائلة عبر الرشوات والصفقات والاقتطاعات والتبعيات والموارد الصادرة من السفارات وكل ذلك على حساب الشعب اللبناني الذي يعيش من قلة الموت، بحيث إذا أُقرَّتْ له سلسلة الرتب والرواتب بعد شق النفس ومماطلة مهينة وطويلة، أجهضتها الضرائب الباهظة وارتفاع أقساط إمبراطوريات المدارس الخاصة ومافيات الكتب والقرطاسية! حتَّى ما يُسمَّى المجلس الدستوري، رفض زيادة الضرائب على المصارف لأنها جزء كبير من تركيبة النظام اللبناني الفاسد الذي لا ينطبق عليه وصف النظام الكومبرادوري ولا الرأسمالي ولا الطبقي فهو عصيٌ على كل التحليلات الاقتصادية والمادية والتاريخية وكان على الفلاسفة ومنظري الأيديولوجيا كماركس وإنغلز وميكاڤيللي وآدم سميث وغيرهم أنّْ يعيشوا في لبنان لكي يغيروا كل نظرياتهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية وربَّما لكانوا كفروا بكل النظريات وتخلوا عنها وعملوا بدلاً عن ذلك بالزبالة في نيويورك، كما تمنى ذات مرة وليد جنبلاط.
فأي بلد لا يعتمد موازنته (السنوية) إلاَّ بعد 12 عاماً فيصرف من المال العام خبط عشواء بلا خطة ولا قطع حساب ولا سجلات مالية ولا حسيب ولا رقيب، بينما ديْنه العام تخطَّى 80 مليار دولار؟ وأي بلد يستنفر أحد نوائبه فيشنّ «عدواناً» على مصرف لبنان وعلى «حاكمه» الأوحد، بكلام حق يُراد به باطلاً وفي الموقع الخطأ لسبب شخصي يتعلَّق بعمل شقيقه بينما لم ينتبه إلى فضائح «الهندسات» المالية السابقة لمصرف لبنان والتي أوردتها بالتفاصيل جريدة «الأخبار»؟ وفي أي بلد يُطلق على رئيس المصرف المركزي إسم «الحاكم»، تشبهاً بالحاكم بأمر الله الفاطمي أو ربَّما الأمير علَّاقة الذي صكَّ نقوداً بإسمه كتب عليها «عِزٌ بعد فاقة، الأمير علَّاقة»؟! حتَّى في أميركا نفسها حيث البنك الفدرالي الاحتياطي يتحكم بسياسات الولايات المتَّحدة النقدية والمالية بل بالعالم برمَّته، يُطلَقْ على حامل أعلى منصب فيه مجرَّد لقب رئيس (Chairman).
وفي أي بلد تجد غنىً فاحشاً غالباً لدى السلالات السياسية الحاكمة مقابل الفقر المدقع والأوضاع المزرية لأغلب عائلات المجتمع اللبناني بكافة أطيافه، والتي تضطر لارتكاب الموبقات من أجل أنّْ تعيش من خلال بيع الموتورات ومولدات الكهرباء والماء في بلد الأنهار وغيرها!
هذه ليست مبالغة، فالمجتمع متفسخ ومشرذم ويحاول إعالة نفسه بنفسه إزاء طمع وجشع وغولية وحوش السياسة وانعدام الخدمات الأساسية كالوظائف المُنتِجَة والطبابة والسكن والتعليم المجَّاني وضمان الشيخوخة والتمثيل السياسي الصحيح وهذه المطالب كنَّا نتظاهر من أجلها منذ الستينيات من القرن الماضي . وبالأمس فقط، تم الكشف عن شبكة «موساد» إسرائيلية في برج البراجنة، أي في عُقر دار المقاومة، فهل سأل أحد من السياسيين وحتَّى النَّاس العاديين ماذا يحفز هؤلاء الشبان ليبيعوا أنفسهم للشيطان؟ بل ماذا عن شبكات التبعية والعمالة لمن هم في مواقع الحكم والدولة؟ وكيف يصبح عميلاً إسرائيلياً رئيساً للجمهورية ويكاد خليفته يصبح رئيساً أيضاً رغم ادانته بقتل رئيس حكومة ثم يُعفَى عنه، ويُحاكم من نفَّذ حكم الشعب بالعميل ولا يشمله العفو؟ معادلة لا يكتنه سرها حتَّى آينشتاين نفسه!
هذه خلفية جريمة زقاق البلاط، في شبه وطن التناقضات والمحلَّة التي شهدت جريمة الفتى الذي هو ضحية الدولة والسياسيين كباقي العائلات، هي منطقة فاصلة بين عالمين، عالم الفقر والبؤس والتعاسة وعالم اللصوصية الرأسمالية الفاحشة والثراء المزيَّف المُصطَنَع الذي تشكِّله «سوليدير»، مما يرمز إلى بلد لا يملك مقوِّمات وطن منذ نشوئه الجهيض. فأزقة سياسيي لبنان وحُكَّام البلاط الأرستقراطي والسلالات الملكية من دون تيجان، هي سبب الكارثة وسبب انتشار أزقة العوز والحاجة عند النَّاس الذين لا يجدون في بيوتهم إلا الفراغ والبلاط!
Leave a Reply