إلزام شركة أمنية متعاقدة مع البنتاغون بدفع تعويضات بقيمة ٤٢ مليون دولار
لثلاثة مواطنين عراقيين تعرضوا للتعذيب في سجن أبو غريب
واشنطن
بعد ستّة عشر عاماً من التقاضي أمام المحاكم الفدرالية، تكللت أخيراً جهود المحامٍي العربي الأميركي شريف عقيل بنجاح تاريخي عبر إدانة شركة متعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وإلزامها بدفع تعويضات بقيمة 42 مليون دولار لصالح ثلاثة سجناء عراقيين سابقين في سجن أبو غريب تعرضوا للتعذيب وإساءة المعاملة خلال عامي 2003 و2004.
ونجح عقيل الذي يتحدّر من أصول مصرية، باستصدار قرار غير مسبوق من هيئة محلفين فدرالية بولاية فيرجينيا، الثلاثاء المنصرم، بإلزام شركة CACI Premier Technology، التي كانت متعاقدة مع «البنتاغون» لاستجواب المعتقلين في سجن أبو غريب، بدفع 14 مليون دولار لكل من سهيل الشمري، وهو مدير مدرسة إعدادية سابق في العراق، وأسعد الزوبعي (بائع فاكهة) وصلاح العجيلي (صحافي).
وكان الثلاثة قد تقدموا بالشكوى ضد CACI، وهي شركة خاصة مقرها في آرلينغتون بولاية فيرجينيا في العام 2008، بتهمة انخراط موظفيها في تشجيع جنود أميركيين على إساءة معاملة السجناء تمهيداً لاستجوابهم.
وأصبح سجن أبو غريب الواقع غرب بغداد رمزاً نافراً لانتهاكات الاحتلال الأميركي للعراق بعد بروز أدلة على إساءة معاملة معتقلين في المنشأة أواخر عام 2003 حين كان موظفو الشركة المتعاقدة يعملون في السجن، وفقاً للدعوى.
وكانت فضيحة أبو غريب التي كشفت عن تعذيب وإذلال المعتقلين، بما في ذلك ضربهم وتكديسهم مقيّدين وعراة فوق بعضهم البعض، قد أسفرت عن إدانة 11 حارساً من ذوي الرتب الدنيا، باتهامات جنائية أمام القضاء العسكري، بمن فيهم ليندي إنغلاند وهي جندية احتياط أميركية سابقة بدت مبتسمة في عدة صور بجانب سجناء عراة.
وخلال المحاكمة، جادلت CACI بأن معظم الانتهاكات الواردة في القضية لم تأت بتشجيع من موظفيها وإنما كانت ممارسات وافق عليها وزير الدفاع الأميركي –إبان غزو العراق– دونالد رامسفيلد، وعمد قادة عسكريون في السجن لدمجها ضمن تقنيات الاستجواب.
في المقابل، استندت مرافعات عقيل أمام المحكمة الفدرالية بولاية فرجينيا، إلى قانون أميركي يعود للعام 1789، ويتيح لغير الأميركيين تقديم شكاوى أمام القضاء الأميركي في القضايا التي تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان خارج الولايات المتحدة، وهو قانون تم سنه في بادرة حسن نية من واشنطن تجاه باريس لمقاضاة القراصنة الذين كان يختطفون سفراء فرنسيين.
وفي تعليقه على حكم التعويضات، قال عقيل، الذي لديه مكتب محاماة في مدينة تروي بولاية ميشيغن، إن «هيئة المحلفين الفدرالية قد أرسلت رسالة واضحة إلى العالم»، واصفاً الحكم القضائي بـ«التاريخي».
وأضاف: «إنه أمر مذهل. أميركا تتألق اليوم. لقد أرسلت هيئة المحلفين رسالة إلى العالم مفادها إذا كنت تعمل باسم أميركا، فإن احترام الإنسانية شأن عالمي، سواء كنت أميركياً أو مواطناً من دولة أخرى».
وبالنسبة للمحامي المقيم في مقاطعة أوكلاند، فإن حكم الهيئة لم يعمّق إيمانه بالقيم الأميركية فحسب، وإنما جاء «ليؤكد على ما نحن عليه، وعلى مدى صلاحنا»، وفق ما أفاد لصحيفة «ديترويت فري برس»، مضيفاً بأن الهدف من هذه الدعوى «هو إظهار أنه إذا كنت مارست التعذيب في العراق، فإن قوانين أميركا ستصل إليك وستحاسبك».
الشركة تنفي إساءة المعاملة
عقب صدور قرار هيئة المحلفين، نفت شركة CACI، في بيان، تورّطها في إساءة معاملة السجناء العراقيين، مجددة التأكيد على عدم وجود أي دليل على أنها مسؤولة عن الانتهاكات في سجن أبو غريب.
وفيما لم يتم توجيه أية تهم جنائية لأي من محققي الشركة، زعمت CACI أن المدّعين الثلاثة فشلوا في إثبات «اتصال واحد» مع موظف معيّن من موظّفيها، مؤكدة أنها تخطط لاستئناف حكم المحكمة.
وقال محامو الشركة إن المدعين سعوا بشكل خاطئ إلى «تحميل CACI المسؤولية على أساس نظرية المؤامرة»، موضحة بأن الشرطة العسكرية (الأميركية) في سجن أبو غريب هي المسؤولة عن إساءة معاملة المعتقلين، و«ليس موظفوها».
وعبّر بيان الشركة عما أسماه «خيبة أمل شديدة من قرار المحكمة»، وقال: «لقد عانت CACI على مدى عقدين من الزمن تقريباً من التبعات السلبية طويلة الأمد بسبب الأفعال المؤسفة والمتهورة التي ارتكبتها مجموعة من أفراد الشرطة العسكرية في سجن أبو غريب من عام 2003 ولغاية عام 2004. وقد حوكم الأفراد المسؤولون عن هذا السلوك الفظيع عسكرياً وعوقبوا على الجرائم التي وقعت قبل أكثر من عقد من الزمان».
ولفت البيان إلى أنه لم يتم توجيه اتهامات جنائية أو مدنية أو إدارية إلى أي موظف في CACI في هذه القضية، مضيفاً «لم يشارك موظفونا في هذه الأحداث المزعجة، ولم يكن أي من موظفينا مسؤولاً عنها. ولا يزال رأينا هو أنه لا يوجد دليل على وجود مؤامرة لإساءة معاملة المعتقلين، وسوف نواصل السعي لتحقيق العدالة من خلال استئناف هذا الحكم».
لكن المدّعين العراقيين الثلاثة يؤكدون بأن محققي CACI لعبوا دوراً أساسياً في إساءة معاملتهم، زاعمين بأنهم تآمروا مع الشرطة العسكرية لـ«تليين» المعتقلين من خلال إذلالهم والإساءة لهم قبل استجوابهم. وقالوا في الدعوى القضائية إنهم اعتقلوا دون سبب وتم تعريضهم لصدمات كهربائية والضرب بالهراوات، إلى جانب تجريدهم من ملابسهم وتهديدهم بالكلاب وإجبارهم على الدخول إلى أقفاص، مؤكدين بأن موظفي الشركة «أداروا وتسببوا في الكثير من التعذيب والإساءة الصارخة في سجن أبو غريب».
كما زعم أحد المدّعين الثلاثة بأنه تعرض لاعتداء جنسي من قبل امرأة في السجن.
مسار قضائي طويل
رفع عقيل هذه القضية غير المسبوقة بموجب قانون Alien Tort Statute، لعام 1789 الذي يوفر للأجانب فرصة المطالبة بإحقاق العدالة أمام المحاكم الأميركية عن عديد الانتهاكات التي يعاقب عليها القانون الدولي. ولا يزال القانون آنف الذكر سارياً حتى اليوم.
وفي الإطار، قال عقيل: «لقد استخدمنا قانوناً قديماً جداً»، مشيراً إلى أن معظم المتورطين في الإساءة للسجناء في أبو غريب قد تمت إدانتهم باستثناء موظفي CACI.
وأضاف: «لقد أدين أفراد الشرطة العسكرية أمام محاكم عسكرية، ولكن الوحيدين الذين أفلتوا من العقاب هم المتعاقدون»، في إشارة إلى الشركة المتعاقدة مع «البنتاغون» لاستجواب السجناء.
وكانت الدعوى القضائية قد استغرقت عدة سنوات لبلوغ المحاكمة بعدما حاولت CACI لأكثر من عشرين مرة إسقاط القضية قبل وصولها –لأول مرة– أمام هيئة محلفين في نيسان (أبريل) 2023. غير أن انقسام الهيئة –آنذاك– حال دون صدور أي قرار، قبل أن تتم إعادة المحاكمة أمام هيئة محلفين أخرى حكمت الثلاثاء الماضي لصالح المدّعين العراقيين الثلاثة.
وأدلى أحد المدعين حضورياً بشهادته في اليوم الأول من المحاكمة، بينما أدلى المدعيّان الآخران بشهادتهما عبر تطبيق «زووم»، ليكونوا بذلك، أوّل الناجين من سجن أبو غريب ممن يدلون بالشهادة أمام القضاء الأميركي.
كما تضمنت المحاكمة شهادات لجنرالات أميركيين وموظفين في CACI، بالإضافة إلى شرطية سابقة متورّطة في تعذيب السجناء العراقيين.
وبعد سنوات طويلة من العمل الدؤوب، وصف عقيل، قرار الهيئة بالقول «لقد طال انتظاره كثيراً»، وأضاف «واجهنا 21 التماساً لرفض القضية… سافرنا إلى العراق، وماليزيا وتركيا، وبقينا نصطدم بجدار تلو الآخر حتى نطقت هيئة المحلفين أخيراً».
البداية من ديربورن
بدأت هذه القضية من مدينة ديربورن التي زارها في العام 2004 شخص عراقي يدعى «صالح»، وقد شاءت الظروف أن يلتقي بالمحامي عقيل ويخبره بأصناف التعذيب التي تعرض لها أثناء اعتقاله في سجن أبو غريب، بما في ذلك تجريده من كامل ملابسه وربط عضوه التناسلي بحبال.
وبعد أسبوعين من ذلك اللقاء، تم بث تقرير تلفزيوني عن السجين العراقي نفسه على برنامج «60 دقيقة»، مصحوباً بصور مؤلمة عن سجناء عراة يتعرضون للإذلال من قبل المشرفين على عمليات التحقيق.
وعلى أثر ذلك، باشر عقيل المولود لأبوين مصريين في ولاية كاليفورنيا، والذي نشأ في ولاية ميشيغن، باتخاذ إجراءات فورية حيث سافر إلى العراق للبحث عن معتقلين سابقين في سجن أبو غريب وإجراءات مقابلات معهم بهدف رفع دعاوى فدرالية، وذلك بمساعدة المحاميين محمد فريدي ومايكل بوكانان من مكتب «باترسون بيلكناب ويب آند تايلر» للمحاماة في نيويورك، اللذين عملا كمساعدين في القضية لمدة 16 عاماً، بما في ذلك عملهما كمستشارين رئيسيين للمدّعين الثلاثة مع «مركز الحقوق الدستورية».
وفي نهاية المطاف تم رفع دعوى فدرالية في عام 2008 أمام المحكمة الفدرالية في ولاية فيرجينيا حيث يقع مقر شركة CACI، وبرغم عديد العقبات التي واجهت القضية، ومن ضمنها قرار للمحكمة العليا في الولايات المتحدة يقضي بأن قانون المسؤولية الناجمة عن التقصير تجاه الأجانب لا ينطبق على الإجراءات المتخذة في دول أخرى ذات سيادة، وهو القانون الذي تذرعت به شركة CACI لرفض الدعوى.
وجادل محامو الشركة بأن قرار المحكمة العليا يعني بأنه لا يمكن اللجوء إلى القانون الأميركي لتسوية انتهاكات الحرب خارج الولايات المتحدة، لأن العراق بقي دولة ذات سيادة في الوقت الذي كان فيه تحت سيطرة ما يعرف باسم سلطة التحالف المؤقتة، وهي حكومة انتقالية تأسست في العراق في أعقاب الغزو الأميركي للبلاد، في 19 آذار (مارس) 2003.
غير أن عقيل وزملاءه، جادلوا من جانبهم بأن حكم المحكمة العليا لا ينطبق على القضية لأن الولايات المتحدة كانت تسيطر فعلياً على العراق عندما وقعت الانتهاكات بحق السجناء في أبو غريب، لينجحوا أخيراً في التغلب على جميع العقبات المستجدة، ولينتهي المطاف بالقضية أمام هيئة محلفين لمرتين، قبل استصدار الحكم التاريخي الثلاثاء الماضي.
وشكر المدير القانوني لـ«مركز الحقوق الدستورية» باهر عزمي، الذي عمل أيضاً على ملف القضية، هيئة المحلفين لمحاسبة الشركة «على دورها في هذه الحلقة المخزية في التاريخ الأميركي»، وعلى «منح موكلينا العدالة التي لجأوا إلى القضاء الأميركي لنيلها».
Leave a Reply