مريم شهاب
هذه أيام مباركة، رغم ما يحتاج عالمنا اليوم من النفاق وارتكاب الصغائر والكبائر وطغيان الغرائز البهيمية، لانها أيام ميلاد المسيح، الكائن الأعظم والأسمى، الذي أعلن خلال ما عاشه على الأرض «أن باركوا لاعينكم». أحسنوا الى من أساء إليكم. وأحبوا أعداءكم كأنفسكم، ولا سبيل إلى ذلك كله إلا بالمحبة، الله محبة.
وبمناسبة ولادة المسيح، ضمير الكون الحي، أحب ان أشارك القرّاء قصة رائعة جرت فـي ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، كتبها أحد الكتّاب الألمان كتجربة عاشها وهو فـي الثانية عشرة من عمره.
فـي العام ١٩٤٤، اشتدت المعارك فـي بلدتنا وانهالت عليها قنابل الحلفاء كالحمم وبات من العسير البقاء فـي البلدة، فارتأى والدي ان نرحل أنا وامي لنعيش فـي كوخٍ وسط الغابة بعيداً عن البلدة، لنكون هناك فـي مأمن، وبقي هو يشارك فـي الدفاع المدني لإطفاء الحرائق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فـي ليلة عيد الميلاد، سمعنا طرقات على باب الكوخ، بسرعة أطفأت أمي الشموع ولم تجب الطارق الذي كررّ طرق الباب واضطرت أمي ان تفتح الباب، كانوا ثلاثة رجال مدججين بالسلاح. بدوا كالأشباح واقفـين أمام الأشجار، تحدث إثنان منهما مع أمي لم نفهم كلمة منها، وهما يشيران إلى الثالث المصاب بجراح خطيرة. كان فـي وسع الرجلين المسلحين أن يشقا طريقهما بالقوة ولكنهما لم يفعلا بينما كانت أمي صامتة بلا حراك، ثم أشارت إليهما «أدخلا» فحمل الجنديان رفـيقهما إلى الداخل وضعاه على سريري، وراحت أمي تضمد جراحه وتسعفه رغم علمها أنهم جنود أميركان. فـيما أمرتني أن أحضر بعض حبات من البطاطا والخضر مع الديك الرومي الذي كنّا نحتفل بأكله فـي تلك اللية، ليلة الميلاد، وفـيما كانت أمي منهمكة فـي الطبخ، اذا بِنَا نسمع عدة طرقات على الباب وبعد طول تردد فتحناه، وإذ بِنَا امام أربعة من الجنود الألمان، وشل الخوف حركتي ورغم أنني كنت غلاماً صغيراً فقد كنت أعرف القانون القاسي الذي يعتبر إيواء جنود الحلفاء الأعداء هي خيانة عظمى، وأخذت ارتجف لاعتقادي انهم سوف يقتلوننا لا محالة.
قالوا لأمي «لقد فقدنا كتيبتنا ونود أن ننتظر عندكم حتى مطلع الصباح»!! فأجابتهم أمي بثقة عجيبة «عيد ميلاد سعيد، تفضلوا بدلا من وقوفكم فـي الخارج وسط البرد والثلوج، وتتناولون وجبة الميلاد الطيبة والدافئة، مع ثلاثة ضيوف عليكم أن تعتبروهم أصدقاء ما دمتم فـي هذا المكان». وسألها قائدهم حازماً «هل هم أميركان»؟ فردت عليه أمي بشجاعة ورباطة جأش قائلة لهم «اعتبروني مثل أمكم، هناك فتى جريح ينازع الموت، وهم ضلوا الطريق مثلكم، وهم جوعى ومتعبون مثلكم تماماً، وهذه ليلة ولادة مسيح المحبة والتسامح». صمتت قليلا وقالت «لنصلي للجميع. أرجوكم وضع أسلحتكم فوق كومة الحطب هذه». فوضعوها وما إن شاهدهم الجنود الأميركان يفعلون ذلك حتى وضعوا أسلحتهم فوق كومة الحطب أيضاً.
ارتاحت ملامحهم حول المائدة الخشبية البسيطة وتبادلوا بعض كلمات المجاملة فـيما راحت أمي تحضر المزيد من الحساء والبطاطا إلى جانب الديك الرومي. وهي تقول «أعرف ان الرجل الجائع إنسان غضبان». ثم أكلوا جميعاً وغنوا جميعاً أغاني الميلاد وأغنية الترحيب بالعام الجديد الذي سوف بعد أيام، واستمرت الهدنة حتى الصباح. وبمساعدة الجنود جميعاً، لفت أمي جسد الجندي الجريح بلحافها الصوفـي وحمله رفاقه فوق لوح خشبي وودع الأميركان والالمان بعضهم بعضاً، وعند ذلك اعادت أمي لهم أسلحتهم وأخذنا نراقبهم وهم يختفون فـي اتجاهين مختلفـين.
إنها المحبة التي تزيل الفوارق وتزيل أسباب العداء والنزاع بين الدول كما تزيلها بين الأفراد.
Leave a Reply